كتاب " ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي " ، تأليف محمد محمود البشتاوي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
أنت هنا
قراءة كتاب ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي
الباب الأول :الحكاية العربية القديمة
عناصر الائتلاف والاختلاف
أَيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ؛ الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي
ابن تغري بردي
(المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي)
يجد قارئ الحكاية العربية القديمة المتفحص أن هذه الحكاية تتسم بخصائص مشتركة، فهي لا تجنح بعيداً في الخيال، ولا تعتمد على خوارق لتحقيق الإثارة، وربما يعود ذلك لاستنادها إلى التاريخ، مع التأكيد أن هنالك قسماً من الحكايات لجأت إلى الخوارق والأجواء العجائبية، كسيرة «سيف بن ذي يزن»، وحكاية «مصباح علاء الدين»، و«السندباد البحري»، وقصة «حي بن يقظان»، و«العنقاء»، وحكايا «الغول/ـة»، وثمة خرافات في كتب التراث أطلق عليها في الأثر «تكاذيب الأعراب»، وهي نوع من «الكذب الأبيض»، حيث يتنافسون على إطلاق كذبة مبالغ فيها أكثر من غيرها،.
وفي حال المبالغة، ضربت العرب مثلاً فقالت «من رابع المستحيلات»، إذ إن هنالك ثلاثة مستحيلات نَفَت العرب وجودها، ورأت في «حكيها» وتداولها مبالغةً خارجة عن المألوف، فقيل:
أَيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي([1])
فمن جاء بأمر يستحيل حدوثُه أو تحقيقهُ رُدَّ عليه بجزمٍ وتأكيد «من رابعِ المستحيلات».
«المنتقمون» صفةٌ يمكن تعميمُها على أبطال الحكايات العربية؛ فالزير سالم ينتقم لأخيه من بني مرة، والزَّبَّاء تنتقم لوالدها عمرو بن الظرب من قاتله جذيمة الأبرش، وابن أخت جذيمة هذا، وهو عمرو بن عدي ينتقم من الزَّبَّاء لمقتل خالهِ، كما أن امرئ القيس ينتقم لأبيه، أما سابور ذو الأكتاف فينتقم من الضيزن بن معاوية خاطفِ أخته «ماه»، وحيناً يقال إنها عمته، ثم ينتقم من «النضيرة» لأنها خانت والدها..، وهكذا تستمر عملية الانتقام التي تُبنى على أساسها حبكةُ الحكاية.
ربما كان «عنصر الانتقام» أساسيا في بنيان حكايتنا الشرقية، نظراً إلى ترسخ القيم القبلية والعشائرية والمناطقية كخلفية عامة مشتركة، فأصبح الانتقام ركيزة أساسية في أيِّ صراعٍ قد يُشعلُ حرباً ضروساً تمتدُّ نيرانها لأربعة عقود كما في حرب البسوس، وبسبب أن الخطف، أو السَّبي، أو الإغارة، وما شابه ذلك من ظروفٍ كانت تعدُّ من الحياة اليومية الدارجة في عصر ما قبل الإسلام، فإن بعض العرب لجأت إلى «وأد البنات» مخافة وقوعهن في تلك النزاعات سبايا.. فكان «الوَأدُ» سُلوكاً من العرب لمنعِ الانتقام من الشرف فيما لو اندلعتْ حربٌ وأراد الخصمُ الانتقام بـ «السَّبي».
يحضر «الشعر» بقوة داخل الحكاية العربية، بل إن بعض الحكايات تبني قصتها على الشعر، من ذلك ما أوصى به «الملك» كليب قبل وفاتهِ متأثراً بجراحهِ لأخيه «الزير سالم»، وقصة الأخير مع بيتين من الشعر قالهما لعبدين ليبلغاهما ذويهِ، فلما عاد العبدان قالا لـ«اليمامة»:
من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا لله دركما ودر أبيكما
فصاحت اليمامة وقالت: عمي لا يقول أبياتاً ناقصة. وإنما أراد أن يقول لنا:
من مبلغ الحيين أن مهلهلا أضحى قتيلاً في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبـيــكما لا يبرح العبدان حتى يقتـلا ([2])
وإضافة إلى المهلهل، فإن أغلب شخصيات «حرب البسوس» تقرضُ الشعر، علاوةً على أن معظم أبطال الحكايات العربية هم شعراء، كامرئ القيس، وقصير بن عدي، وغيرهما.
ثيمةٌ مشتركةٌ أخرى تتجسد في «المَثَل»، وكأن الحكاية العربية وُجدت من أجل استنباط الأمثال، ويحضُرُ هذا بقوَّةٍ في قصة «الزَّبَّاء» وحربها مع «الأبرش»، وفي «حرب البسوس» أيضاً.
عنصر آخر تشترك بهِ الحكاية العربية؛ إنها تأتي في قالب «إخباري» لقصص الأولين، ومع تناقلها شفهيّاً، ومن ثم تدوينها في مرحلة لاحقة طرأ عليها بعض الإدخالات في سياق «حكائي»، فلا يستبعد «جواد علي» أن تكون بعض الأحداث، أو التأويلات من وضع القاصِّين، كما في تأويل لقب «ذو الأكتاف» للملك الفارسي «سابور الثاني».
ومن هذه العناصر المشتركة أن الشخصيات الرئيسية من النساء في الحكاية العربية كُنَّ غالبا زرقاوات الأعين، فحين أراد الجاحظ في كتابه «الحيوان» أن يعرِّف اليمامة ذكر أنها «كانت من بنات لُقْمان بن عاد، وأن اسمها عنْزٌ، وكانت هي زرقاء، وكانت الزَّبَّاء زَرْقَاء، وكانت البَسُوس زرقاء». ولا ننسى أن فكَّ طلسم «حصن الخضر» كان بدم حيض جاريةٍ «زرقاء» كما تؤكد المصادر، وثمةَ مؤشر واحد حول «زرقة العين».. إنها فألٌ سيئٌ يعود على أهلهِ بالخراب.
ورغم هذه العناصر المشتركة، إلا أننا لا نعدم وجود تمايز بين الحكايات، مثل محاولة تصوير بعض الأبطال بصورة غير مألوفة؛ كوصف أجسادهم القوية، وقدرتهم على القتال، وهزيمة البطل الفرد الواحد لمائة رجل في مواجهة واحدة، وغير ذلك، بيد أنها لا تصل لدرجة من التصوير الغرائبي والعجائبي، في حين كان «فك الطلسم» في قصة «النضيرة مع سابور ذي الأكتاف» حينما أشارت إليه بأن يخضب قدمي حمامة «الورشان» بدم حيض جارية «زرقاء» ثم يرسلها إلى حصن أبيها لينهار وينفك طلسمه، يتضمّن مبالغة، وخروجا عن مألوف الحكاية.
كانت الحرب في حكايات الجزيرة العربية وجهاً لوجه في الصحراء، فالمواجهة فيها مكشوفة بين النخيل والكثبان الرملية والواحات، فبيئة هذه الحكايات بيئة واقعية، أما في حكايات العراق وسوريا فكانت الحروب تتمُّ عبر الخدع والمكائد ورسم خرائط الغزو والإغارة، والتفكير في كيفية الهروب عبر الأنفاق، واختراق الحصون لكسر قلعة الخصم من الداخل، علاوةً على وجود موانع طبيعية تمثلها بيئة المكان، من جبال وأنهار عازلة.