أنت هنا

قراءة كتاب ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

كتاب " ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي  " ، تأليف محمد محمود البشتاوي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

«زنوبيا».. ليست مجرد زباء!

لا شك أن تلك المرأة القوية (زنوبيا) واحدة من الشخصيات المهمة في تاريخ الشرق الأدنى القديم. ويصفها المؤرخون بأنها امرأة قوية الشخصية، قوية البنية، شجاعة، جميلة، ذات هيبة ووقار، كانت تستوي في الجمال مع كيلوبترا، وإن فاقتها عفة وطهارة، وجرأة وشجاعة، كانت من ألطف بنات جنسها، وأكثرهنّ بطولة، كانت سمراء الوجه، ذات أسنان ناصعة البياض كاللؤلؤ، تفيض عيناها السوداوان حيوية غير عادية، مع رقة جذابة إلى أبعد حد، كان صوتها قويا مطربا، وكانت سيرتها أقرب إلى سِيَر الأبطال منها إلى سِيَر النساء، فلم تكن تركب في الأسفار غير الخيل، وقد سارت على قدميها في بعض المرات أميالاً على رأس الجيش، وكانت تلبس في المناسبات الرسمية ثوباً من الأرجوان موشّىً بالجواهر، مشدوداً عند الخصر، وإذا ما استعرضت جيشها في الميادين العامة تمر أمام الصفوف فوق جوادها، وعليها لباس الحرب، وفوق رأسها الخوذة الرومانية، تاركة إحدى ذراعيها عاريا حتى الكتف، كما يفعل المحاربون من اليونان القدامى، تحرِّض جندها على الصبر في القتال، والشجاعة عند لقاء العدو، فإذا ما كان عندها فراغ من وقت، قضته، كما كان يفعل أذينة، في صيد وحوش الصحراء الكاسرة، كالأسد والدب والنمر.

د. محمد بيومي مهران

(دراسات في التاريخ العربي القديم)

«يا قلوديوس أغسطس نجنا من فكتوريا ومن زنوبيا، يا قلوديوس أغسطس أغثنا من التدمريين».

صرخات الاستنجاد هذه التي أطلقها أحد أعضاء مجلس الشيوخ في روما أثناء تنصيب القيصر الجديد لم يكن القصد منها الزباء صاحبة الأبرش، كما عرفها بعض الإخباريين، وإنما قصد بها زنوبيا الملكة.

وعلى الرغم من أن الملكة زنوبيا والزباء المنتقمة، تحمل كل منهما صفات التحدي، والمخاطرة، واستخدام التكتيكات الذكية في الحرب للنيل من العدو، إلا أن زنوبيا لم تكن هي الزباء بأي حال من الأحوال. بيدَ أن هنالك فارقاً من جملة الفوارق يثير الجدل؛ ففي وقتٍ تُجمِعُ فيه الإخباريات العربية القديمة على انتحار الزباء، عملاً بمقولتها التي ذهبت مثلاً «بيدي لا بيدِ عمرو»، فإن مصير زنوبيا مثار جدلٍ، ويحتاج إلى تمحيصٍ وتدقيق، وهذا ما سوفَ نعمل عليه.

نُقطتا تحوِّلٍ مرّتا على مملكة تدمر؛ الأولى تمثلت بمقتل أذينة أو اغتياله، إذ يقال إنه كان يحضر لاستقلال حكمه عن الرومان، وثمة من يتهم التدمريين باغتيالهِ لأنه كان كثير التقرب من روما! وهنالك من شكك بزنوبيا ابنته. ونقطة التحول الثانية هي «الانقلاب الذي وقع في مملكة الفرث (الفرس)، وكان له أثرٌ كبير، إذ استأنف الملك أردشير بن بابك بن ساسان الحرب على الرومان([20]).

وقد وظف أذينة هذه الحروب لصالح مملكته، وحين تقلدت زنوبيا زمام الحكم «اتبعت سياسة عربية تعتمد على التقرب من الأعراب، والتودد إليهم والاعتماد عليهم في القتال والحروب. وذلك بعد أن رأت أن الرومان هم أعداء تدمر، وأنهم لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة. وبهذه السياسة تقربت أيضا إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، وأخذت تعمل على تكوين دولة عربية قوية واحدة بزعامتها، خاصة بعد أن أدركت أن الأعراب قوة لا يستهان بها، وأنهم لو نُظِّموا واستُغِلُّوا استغلالا جيدا، صاروا قوة يُحسب لها كل حساب، فأخذت تعمل لتكوين هذه القوة»([21]).

حققت زنوبيا انتصارات كبيرة وزحفت بجيوشها على الجوار الإقليمي، فدخلت مصر وهزمت الرومان، ثم صدَّت هجوما مرتدّاً عن أرضها، وقد «ساعد عرب مصر من سكان الأقسام الشرقية جيشَ تدمر مساعدة كبيرة»([22]) في مواجهة الروم، وحرّض الزعماء المصريون، وعلى رأسهم تيماجنيس وفرموس، زنوبيا على فتح مصر، بل وقدموا لها العون المادي على هذا الفتح([23]).

وهكذا تحرك زبدا قائد جيش زنوبيا، على رأس حملة، قوامها سبعون ألف رجل إلى مصر، وهناك دارت معركة رهيبة بين الفريقين، انتهت بنصر مبين لجيش زنوبيا، وهزيمة ساحقة لجيوش الرومان، وضمّ مصر إلى دولة تدمر، و«لكن ما إن يمضي حين من الدهر، حتى يعود زبدا بجيشه إلى تدمر، تاركا الأمور بيد (تيماجنيس) مع فرقة صغيرة لا يتجاوز عددها خمسة آلاف جندي، وفي الوقت نفسه كان (بروبوس) قد علم بما حدث، فأسرع عائدا إلى مصر، وأخذ يتعقب الجنود التدمريين، ويطاردهم في كل مكان، وتعلم زنوبيا بالتطورات الجديدة، فتأمر زبدا بالعودة إلى مصر، حيث يشتبك الرومان والتدمريون في معارك ضارية، يلعب فيها عرب مصر من سكان المناطق الشرقية، فضلاً عن تيماجنيس، وهو مصري على رأي، وعربي متمصِّر على رأي آخر، أخطر الأدوار إلى جانب التدمريين، خاصة في المعارك التي دارت حول حصن بابليون»([24]).

وحول نهايتها يقول توفيق برو: «ولم ترَ زنوبيا في النهاية، وبعد أن استبدَّ بها اليأس، إلا أن تفرَّ إلى الصحراء في محاولة منها للالتجاء إلى الفرس، لكن أورليان تمكن من أسرها عند ضفاف الفرات، واقتادها معه إلى روما، فقضت بقية أيام حياتها منسية في العاصمة الرومانية، ولم يعاقب الإمبراطور بالقتل سوى كبار قوادها ومستشاريها بعد محاكمة أُجريت لهم في حمص»([25]).

ويتابع برو: «أما تدمر فقد وضع عليها حاكماً رومانيّاً، وفرض عليها غرامة كبيرة، فلم تلبث بعدئذ أن أعلنت على الحكم الروماني ثورةً قضت فيها على الحامية الرومانية، فكان على أورليان أن يعود أدراجه إليها ليخمدها، وقد استباح تدمر لجنوده ودمرها، وأعمل السيف في رقاب أهلها. وهناك رسالة لأورليان نفسه يعترف فيها بأن الإعدام الرهيب لم يقتصر على المتمردين المسلحين، بل تعداه إلى الشيوخ والنساء والأطفال والفلاحين. وقد سببت هذه الأعمال ضعف تدمر وانحطاط شأنها، ولم يسمع لها خبر حتى الفتح الإسلامي».

ثمة خلاف حول نهاية زنوبيا، فهنالك من يقول إنها أُخذت أسيرةً إلى روما مصفَّدةً، وقد عُرضت على الجمهور للفرجة، بيدَ أن هنالك من قال إنها ماتت في قصرٍ مهجور، في حين أُخذت بناتها سبايا لأشراف الرومان!!.. والكلام على ذمة الرواة.. وهنالك من يقول إنها انتحرت بالسم، وهو الرأي الأقرب لواقعها، في حين يرى بعض الباحثين أنها أضربت عن الطعام حتى ماتت في روما. وهنالك رواية تقول إن القيصر عرض على الزباء التسليم بشروط معتدلة، إلا أن الملكة العربية ترفض العرض بإباء وشمم، مذكرة إياه بأنها تفضل ما فعلته كيلوبترا على عار الاستسلام له، وأنها سوف تلقنه درسا قاسيا على جرأته على الكتابة إليها([26]).

القول الأقرب إلى واقع زنوبيا أنها انتحرت بالسم لأسباب عدة، منها أن ملكة تدمر كانت على الدوام تفخر بنسبها إلى الملكة كيلوبترا من جهة الأم، وهذه الملكة ماتت بتجرع السم، كما أن شخصية زنوبيا العسكرية الصارمة، التي كانت تشاركُ جيشها في الحرب ضد العدو، لا تتوافق مع فرضية الاستسلام والرضوخ. ويرى بشار خليف أن زنوبيا أسرت ولكن الذي حصل فيما بعد إمّا أنها أضربت عن الطعام حتى الموت أو تجرّعت السم وهي في طريقها إلى روما([27]).

لا ينتهي الجدل حول زنوبيا، فقد اختلف الدارسون حول ديانتها؛ ومن أعجب الآراء تلك التي تقول إنها تهَوَّدَتْ، وأن الذي هَوَّدَها هو الأسقف «بولس السميساطي». بيدَ أن محمد بيومي مهران يرد قائلاً: «لست أدري كيف يُهوِّدُ أُسقفٌ مسيحي الزباء، أما كان الأولى أن يُنَصِّرَها؟ ومن ثم فإن التحيز، فضلا عن الاضطراب، في هذه الرواية، لا يحتاج إلى إثبات، وربما كان السبب أن هذا الأسقف المسيحي قد أبدى رأيه في «الثالوث» بما لا يتفق وآراء الكنيسة وقت ذاك، ومن ثم فقد حُكم عليه في أنطاكية عام 269م بالعزل من الأسقفية، وعلى أي حال، فهناك الكثير من الشواهد التي تدل على أن اليهود إنما كانوا ناقمين على الملكة وعلى الدولة كذلك، ربما بسبب حروب أذينة ضد الفرس؛ ذلك لأن الزواج المختلط إنما نتج عنه جيل جديد أضاع الدين والتقاليد الإسرائيلية، وأن الحروب ضد الفرس قد ألحقت ضررا كبيرا بالجاليات اليهودية التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العراق والشام»([28]).

في المقابل ثمة من قال إن زنوبيا كانت نصرانية، إذ «حرص فريق آخر على أن يجعل الزباء([29]) نصرانية، وإن ذهب فريق ثالث إلى أنها إنما كانت مُحِبَّة للنصارى، ولكنها لم تكن نصرانية، بينما اتجه فريق رابع إلى أن المرأة لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما كانت بين بين، كانت تعتقد بوجود الله، سبحانه وتعالى، وترى التوحيد كما يراه الفلاسفة، وليس كما تصوره ديانة الكليم أو المسيح عليهما السلام»([30]).

الصفحات