أنت هنا

قراءة كتاب ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي

كتاب " ليس مجرد سرد ... أصل الحكاية في التراث العربي  " ، تأليف محمد محمود البشتاوي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

من التاريخ إلى الحكاية الشعبية

تنسج الحكاية الشعبية أولى خيوطها من مسلة التاريخ، وثمة صلة وثيقة لا يمكن التنكر لها، بل ويختلط الحابلُ بالنابل أحياناً، فيصبحُ من الصعب الفصلُ بينهما، لتداخل العناصر بين الأصل والصورة المنبثقة عنه، والتي أخذت في التمحور والتطورِ نحو شكل آخر.

وفي زمنٍ كانت فيه الرواية الشفهية المرتكز الأساس في عملية سرد الأحداث، تصبح الحكاية الشعبية المليئة بـالمتعةِ شكلاً متطوراً لتاريخٍ مُثقَلٍ بالأحداث الجامدة، فيعاد بذلك إنتاج «حرب البسوس»، و«سيرة الظاهر بيبرس»، وحتى «نمر بن عدوان»، وفي أحد العناوين تصبح زنوبيا ملكة تدمر الزباءَ بنت السميدع، التي تحملُ صفات الثأر والانتقام العشائري.

ملكة تدمر في التاريخ أخذت فضاءً سياسيّاً واسعاً، ولعبت في جغرافيا امتدت من قلبِ الشامِ إلى الجوار العراقي المحكوم من قبل جذيمة الأبرش (الأبرص)، وصولاً إلى الخليج العربي، وليس انتهاءً بـأرض الكنانة، علاوةً على مواجهتها لـلروم، وتوجسها من الفرس، في ظل تعاظم حدود دولتها المحاطة بقوى عظمى.

وملكة تدمر أيضاً تم إعادة إنتاجها في ثوبين؛ الأول فكري سياسي استُجلِبَ من التاريخ لتوظيفهِ في الواقع العربي المعاصر (انظر مثلاً: «زنوبيا ومشروعها القومي» لنصر الدين البحرة–سوريا)، والثوب الثاني «حكائي» ويأتي في إطارين؛ إما للتسلية وقتل الوقت في قصة درامية مشوقة ومليئة بالعقد والحبكات، ذات طراز تصاعدي في وتيرة الحدث، والإطار الآخر لسرد شيء من التاريخ بهدف تعزيز الانتماء لـرموز الأمة.

والزباء/الحكاية تختلف عن مثيلتها زنوبيا التاريخية، لأنها تتحرك في نطاق جغرافي محدد بـتدمر– الأنبار، مع استرجاع زمني لأرض اليمن، موطن الأبرش الذي جاء منهُ إلى أرض السواد للقضاء على العصبيات وصراع الجوار على العراق، وتوحيدهِ ضمن حكم عربي.

ثمة في الحكاية استعارة من «أسطورة طروادة»؛ إذ إن جيش عمرو بن عدي (ابن عم الأبرش المقتول)، يدخل إلى قلعة تدمر الحصينة عبر خديعة الوزير قصير([9])، الذي زرعه في مملكة الزباء/الحكاية، بواسطة صناديق الخشب المحملة بالجنود، فما إن تفتح أبواب السور الشاهق للإبل، حتى يخرج المقاتلون من صناديق الخشب.. وتبدأ الحرب لإسقاط مملكة تدمر.

ينتج الخلط بين حكاية الزباء وقصة زنوبيا، كما يرى الراحل عدنان البني في مقالٍ له في مجلة «الحوليات الأثرية العربية السورية»([10])، عن التقارب بين زمن الحكاية الشعبية لـلزباء المُفترضة والفترة التي حكمت فيها زنوبيا الملكة في التاريخ، وهي الفترة بين (267-
272م)، ويشير البني في مقارنته للتفريق بين الشخصيتين إلى أن زنوبيا، ويسميها أحياناً زينب، كانت متزوجة، أما الزباء/الحكاية فهي عزباء. وزينب (زنوبيا في اليونانية واللاتينية) هي ابنة زباي، أما الزباء فابنة عمرو بن الظرب. كما أن زينب لم يكن أبوها ملكاً، في حين أن الزباء كان أبوها ملكاً على الجزيرة وأعمال الفرات ومشارف الشام. ويزعم الميداني في «مجمع الأمثال» أنها ولدت في باجرمي، كما يزعم القزويني وابن قتيبة أنها ابنة ملك العراق. من جهة أخرى ليس لزينب أخت، أما الزباء فلها أخت اسمها زينب. وزينب قادرة على الكلام بعدد من اللغات، بينما لا تعرف الزباء إلا العربية فقط، وتضرب بها الأمثال وتنظم الشعر، على الرغم من أن بعض الباحثين يجعلها رومية.

ويكمل البني مقارنته مشيراً إلى أن جيوش زينب احتلت سورية كلها ومصر والأناضول، فيما الزباء لم تحارب، وظلت في حدود تحركات العشائر شمال الجزيرة العربية وجنوب سورية والعراق. وبينما كان خصم زينب الأساسي الإمبراطور الروماني أورليان، فإن خصم الزباء هو جذيمة الأبرش، ومن بعده عمرو بن عدي. وقد أُسِرَت زينب وهي في طريقها لطلب نجدة الفرس خلال حصار تدمر، أما الزباء فانتحرت بالسم.

علاوةً على ذلك كله فإن من عوامل الخلط الأساسية أن المركز الجغرافي للأحداث واحد، وهو (تدمر–الأنبار–الحيرة)، والشخصيات القائمة في التاريخ لم تُحذف من الرواية (زنوبيا/الزباء– الأبرش –جذيمة).

أشار ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى أن الزباء بنت عمرو اسمها «نائلة عند الطبري، وميسون عند ابن دريد. ويقال إن الزباء الملكة كانت من ذرية السميدع بن هوثر من بني قطور أهل مكة، وهو السميدع بن مرثد بالثاء المثلثة ابن لاي بن قطور بن كركي بن عملاق، وهي بنت عمرو بن أذينة بن الظرب بن حسان»([11]).

ترد حكاية الزباء في حديث الإخباريين العرب بالشكل نفسه، في السياق العام، وإن تغيرت الأسماء وطريقة سرد القصة؛ فالطبري، على سبيل المثال، يشير في مصنفه إلى أن الزباء وجيشها من «بقايا العماليق والعاربة الأولى». ويتناول في شرحهِ ثمود وعاد وإرم السواد (العراق) وإرم الشام، مُكملاً الحكاية المعروفة حول الزباء، ورغبتها في الانتقام لمقتل أبيها من جذيمة الأبرش، في ما تنصحها أختها زينب بالخديعة كي لا تخسر ملكها في الحرب، ثم تكون الواقعة بمقتل الأبرش وحيلة الوزير قصير وانتحار الزباء قائلةً: «بيدي لا بيد عمرو» حيث ذهب قولها مثلاً.

أما المسعودي في مصنفهِ «مروج الذهب» فيكرر تفاصيل القصة نفسها مع تشكيكهِ في قومية الزباء، فيقول: «الزباء ابنة عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة السميدع بن هوبر ملكة الشام والجزيرة من أهل بيت عاملة من العماليق، كانوا في سليح، وقال بعضهم: بل كانت رومية، وكانت تتكلم بالعربية، مدائنها على شاطئ الفرات من الجانب الشرقي والغربي، وهي اليوم خراب»([12]).

لكنّ هشام بن محمد الْكلبي هو أقدم من تناول الحكاية من الإخباريين العرب، حيث قال: «ولم تكن فِي نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها فارعة، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها، فسميت الزباء»([13])، ويؤكد ما ذهب إليه البني في مقارنته من أنها «كانت قد اعتزلت الرجال، فهي عذراء بتول».

ويأخذ ابن هشام وابن الجوزي عن ابن الكلبي أن اسمها فارعة. وعلى الرغم من أن اسمها الحقيقي ونسبها وأصلها وفصلها في الحكايةِ، وفقَ الإخباريين والمؤرخين، لم يحسم بعد، وبقي موضع جدلٍ، إلا أن الخطوط العريضة تؤكد على وجود حكاية شعبية بُنيتْ فكرة الصراع فيها ضمن الإطار القبلي القائم على الانتقام والثأر، خلافاً لما يتمتع به تاريخ زنوبيا/ ملكة تدمر.

الصفحات