أنت هنا

قراءة كتاب كراهية الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كراهية الديموقراطية

كراهية الديموقراطية

كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 5

هكذا، فإنّ الحجج التي ترفعها الحملات العسكريّة الهادفة إلى التوسع العالميّ للديموقراطيّة تكشف عن المفارقة التي ينطوي عليها اليوم الاستخدامُ السائد لهذه الكلمة. يبدو أنّ الديموقراطيّة لها خَصمان. إذ تواجه، من ناحية، عدوًّا محدّدًا بوضوح، هو حكم التعسّف، الحكم بلا حدود، الذي يُطلق عليه، حسب الفترة الزمنيّة، الاستبداد، أو الدكتاتورية، أو الشموليّة. لكن هذه المواجهة الواضحة تخفي مواجهةً أخرى، أشدَّ حميميّة. فالحكم الديموقراطيّ الجيّد هو ذلك القادر على السيطرة على شرٍّ اسمه ببساطة الحياة الديموقراطيّة.

هذا هو التوضيح الذي جرى عرضه على طول أزمة الديموقراطيّة [The Crisis of Democracy]: أن ما يثير أزمة الحكم الديموقراطيّ ليس سوى كثافة الحياة الديموقراطيّة. إلّا أن هذه الكثافة والتهديد الناشئ عنها قدّما نفسهما في جانبين. فمن جهة، تماهت «الحياة الديموقراطيّة» مع المبدأ الفوضوي الذي يؤكّد سلطةً للشعب، من قبيل تلك التي عرفت الولاياتُ المتّحدة ودولٍ غربية أخرى خلال عقدي 1960 و1970 عواقبَها المتطرفة: دوامَ ردٍّ نضاليّ يتدخّل في كلّ مناحي نشاط الدول ويتحدّى كلَّ مبادئ الحكم الرشيد: سطوةَ السلطات العامّة، ومعرفةَ الخبراء، والمعرفةَ التقنية للبراجماتيين.

ولا شكّ أنّ دواء فرط الحيويّة الديموقراطيّة هذا معروفٌ منذ بيزيستراتوس، لو صدقنا أرسطو(3). ويتلخّص في توجيه الطاقات المحمومة التي تنشط في المشهد العامّ صوب أهدافٍ أخرى، في تحويلها صوب البحث عن الرفاهية الماديّة، وعن أشكال السعادة الخاصّة والروابط الاجتماعيّة. وللأسف، سرعان ما كشف الحلُّ الجيّد عن وجهه الآخر: إذ إن تقليلَ الطاقات السياسيّة المفرطة، وتحبيذَ البحث عن السعادة الفرديّة والعَلاقات الاجتماعية، كان يَعني تحبيذ حيوية الحياةٍ الخاصة وأشكالِ التفاعل الاجتماعي التي يترتب عليها تضاعفُ التطلعات والمطالب. وكان لهذا، بالتأكيد، تأثيرٌ مزدوج: فقد جعل المواطنين غير عابئين بالصالح العامّ وقوَّض سطوة الحكومات المكلّفة بالاستجابة لهذه الدوامة من المطالب المنبعثة من المجتمع.

هكذا، اتخذت مواجهة الحيوية الديموقراطية شكل قيدٍ مزدوج [double bind] يسهل تلخيصُه: فإمّا أن تعني الحياة الديموقراطية مشاركةً شعبيّةً كبيرة في مناقشة الشئون العامّة، وهذا شيءٌ سيّء. وإمّا أن تعني شكلًا من الحياة الاجتماعية يحوّل الطاقات صوب أوجه الإشباع الفردية، وهذا، أيضًا، شيءٌ سيّء. ومن ثَم، يجب أن تكون الديموقراطيةُ الجيّدة شكلَ الحكم والحياة الاجتماعية القادرَ على السيطرة على الإفراط المزدوج لكلٍّ من النشاط الجماعي أو الانسحاب الفردي المتأصّل في الحياة الديموقراطية.

ذلك هو الشكلُ الاعتيادي الذي يصوّغ فيه الخبراءُ المفارقةَ الديموقراطيّة، الديموقراطية، بوصفها شكلًا للحياة السياسية والاجتماعية، هي سيطرةُ الإفراطِ. وهذا الإفراطُ يعني دمارَ الحكم الديموقراطيّ ويجب من ثم أن يقمعه هذا الحكم. وقد استثار تربيعُ الدائرةِ هذا بالأمس براعةَ فناني الدساتير. لكن هذا النوع من الفن لم يعد اليوم يلقى التقدير. فالحكومات تدبّر أمورها جيّدًا بدونه. فكون الديموقراطيات «غير قابلةٍ للحكم» يثبتُ بصورةٍ ضافية احتياجها لأن تُحكم، ويُعدُّ هذا بالنسبة للحكومات مشروعيّةً كافية للعناية التي تبذلها في حكمها على وجه الدّقة. لكن فضائل الإمبيريقية [الوضعية التجريبية] الحكوميّة لا تكاد تُقنع سوى مَن يحكمون. أمّا المثقفون فيحتاجون إلى عُملةٍ أخرى، خصوصًا على هذا الجانب من الأطلنطيّ وبالأخصّ في بلدنا الذي يجدون فيه أنفسهم في آنٍ واحد بالغي القرب من السلطة ومستبعَدين من ممارستها. بالنسبة لهم، لا يمكن التعامل مع مفارقةٍ إمبيريقية بأسلحة الترقيع الحكوميّ المتعجّل. إنهم يرون في ذلك عاقبةَ خطيئةٍ أصليّةٍ ما، عاقبة شذوذٍ ما في ذات قلب الحضارة، يحاولون تعقُّبه إلي مبدئه. الأمر بالنسبة لهم، إذن، هو حلّ عقدة التباس الاسم، أن يجعلوا «الديموقراطية» لا الاسمَ الشائع لشرٍّ ولا لخيرٍ يداويه، بل الاسمَ الوحيد للشرّ الذي يفسدنا

الصفحات