أنت هنا

قراءة كتاب كراهية الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كراهية الديموقراطية

كراهية الديموقراطية

كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 6

بينما كانت الجيوش الأمريكيّة تعمل على نشر الديموقراطية في العراق، ظهر في فرنسا كتابٌ يضع مسألة الديموقراطية في الشرق الأوسط في ضوءٍ مختلف تمامًا. حمل الكتاب عنوان الميول الإجرامية لأوروبا الديموقراطية. طوّر فيه المؤلف، ﭼان كلود ميلنر(ب)، من خلال تحليل بارع ومحكم، أطروحةً بسيطة بقدر جذريتها. الجريمة الحالية للديموقراطية الأوروبيّة هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط، أي بحلٍّ سلميّ للنزاع الإسرائيليّ ـ الفلسطيني. فهذا السلام لا يمكن أن يعني سوى شيءٍ واحد، هو دمار إسرائيل. طرحت الديموقراطيات الأوروبيّة سلامها لحلّ المشكلة الإسرائيلية. لكنّ السلام الديموقراطيّ الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة يهود أوروبا. لقد أصبحت أوروبا الموحّدة في السلام والديموقراطيّة ممكنةً بعد عام 1945 لسببٍ وحيد: لأن الأرض الأوروبيّة، بنجاح الإبادة النازية، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحدهُ عقبةً أمام تحقيق حُلمها، ألا وهو اليهود. إنّ أوروبا التي بلا حدود، هي، فعلًا، انحلال السياسة، التي ارتبطت دومًا بكيانات محدودة، في المجتمع الذي مبدؤه على النقيض هو اللامحدودية. الديموقراطية الحديثة تعني تحطيم الحدّ السياسي بواسطة قانون اللامحدودية الخاصّ بالمجتمع الحديث. هذه الإرادةُ لتجاوزِ كلِّ حدّ خدمها وجعلها شعارًا في آنٍ الاختراعُ الحديث بامتياز، ألا وهو التقنية. وتبلغ هذه ذروتها اليوم بالرغبة في التخلّص، بواسطة تقنية التلاعب الجينيّ والتلقيح الصناعيّ، من نفس قوانين التقسيم الجنسي، والإنجاب المرتبط بجنس، والنسب. الديموقراطية الأوروبيّة هي نمط المجتمع الذي يجلب هذه الإرادة. ومن أجل بلوغ غاياته، توجّب عليه، طبقا لميلنر، أن يتخلّص من الشعب الذي مبدأ وجوده ذاته هو مبدأ النسب والتوريث، الشعب الذي يحمل اسمًا يعني هذا المبدأ، أي الشعب الذي يحمل اسم اليهودي. هذا على وجه الدّقة، كما يقول، هو ما جلبته عليه الإبادة بواسطة اختراعٍ متجانس مع مبدأ المجتمع الديموقراطيّ، هو الاختراع التقنيّ لغرف الغاز. واستخلص أن أوروبا الديموقراطيّة قد وُلدت من الإبادة، وأنها تتابع مهمّتها برغبتها في إخضاع الدولة اليهودية لشروط سلامها التي هي شروط إبادة اليهود.

ثمة طرقٌ عديدة لتفحّص هذا الحِجاج. إذ يمكن للمرء أن يُعارض جذريتَهُ بأسبابٍ تتعلّق بالحسّ المشترك أو الدقة التاريخيّة، بأن يتساءل، مثلًا إن كان يمكن اعتبار النظام النازيّ بهذه السهولة فاعلًا في الانتصار الأوروبي للديموقراطية، وكذلك إن كان يمكن اللجوء إلى حيلةٍ ذهنية أو غائيةٍ إلهية للتاريخ. ويمكن، على العكس، تحليل تماسكه الداخلي انطلاقًا من نواة فكر مؤلفه، أي من نظريةٍ في الاسم، متمفصّلةٍ على الثالوث اللاكاني للرمزي، والخياليّ، والواقعيّ(4). لكنّني سأنتهج هنا طريقًا ثالثًا: النظر إلى الحِجاج ليس على أساس شططه بالنسبة للحسّ المشترك أو انتمائه إلى الشبكة المفاهيمية لفكر المؤلف، بل من وجهة نظر المشهد العامّ الذي يتيح هذا الحجاجُ الفريد إعادةَ بنائه، انطلاقًا ممّا يُتيحه لنا من إدراك التحوّل الذي طرأ، خلال عقدينِ، على كلمة الديموقراطيّة في رأي المثقّفين السائد.

يتلخّص هذا التحوّل، في كتاب ميلنر، في اقتران أطروحتين: تضع الأولى تعارضًا جذريًّا بين اسم اليهودي وبين اسم الديموقراطيّة؛ وتجعل الثانية من هذا التعارض انقسامًا بين إنسانيتينِ: إنسانيةٍ وفيّةٍ لمبدأ النسب والتوريث، وإنسانيةٍ متناسيةٍ لهذا المبدأ، تقتفي مثلًا أعلى للتولُّد ـ الذاتي هو، بنفس القدر، مثلٌ أعلى للتدمير ـ الذاتي. اليهودي والديموقراطي هما في تعارُض جذريّ. تحدِّد هذه الأطروحةُ الإطاحةَ بما كان لا يزال يُشكِّل، زمن حرب الأيام الستة أو حرب سيناء، بنية الإدراكَ السائد للديموقراطيّة. كان يجري حينها تمجيد إسرائيل لكونها ديموقراطيّة. وكان المفهوم من ذلك مجتمعًا تحكمه دولةٌ تضمن في آنٍ واحد حريةَ الأفراد ومشاركةَ أكبر عدد في الحياة العامّة. ومثّلت إعلانات حقوق الإنسان ميثاق عَلاقة التوازن تلك بين القوّة المُعتَرفِ بها للجماعة وبين الحريةِ المضمونة للأفراد. وكان نقيض الديموقراطية يسمّي حينذاك الشموليّة. وكانت اللغة السائدة تسمِّي بالشموليّة تلك الدول التي ترفض في آنٍ واحد، باسم قوة الجماعة، حقوقَ الأفراد والأشكالَ الدستورية للتعبير الجماعي: الانتخابات الحرّة، وحريّات التعبير والتجمع. كان اسم الشموليّة يعني ذاتَ مبدأ هذا الرفض المزدوج. كانت الدولةُ الشموليّة هي التي تُلغي ازدواجيةَ الدولة والمجتمع، بتوسيعها دائرة ممارستها لتشمل مجملَ حياةِ الجماعة. كانت النازيةُ والشيوعيّة تُفهمان باعتبارهما نموذجَي تلك الشموليّة، وتقومانِ على أساس مفهومينِ يحاولان التسامي على الانفصال بين الدولة وبين المجتمع، هما مفهوما العِرق والطبقة. كانت الدولة النازية تُعتبر، وَفقًا لوجهة النظر التي أكدتها هي ذاتها، الدولةَ القائمة على أساس العِرق. جرت الإبادة اليهوديّة إذن لتحقيق الإرادة التي أعلنتها تلك الدولة للقضاء على عِرقٍ منحط وحامل للانحطاط.

الصفحات