كتاب " أجراس الخوف " ، تأليف هشام مشبال ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة الكتا
أنت هنا
قراءة كتاب أجراس الخوف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خريف
الآن وقد جاوز عامه الخمسين بأيام معدودة، يتذكر الأستاذ نجيب وهو يتأمل وجهه في المرآة ذات الإطار الخشبـي العتيق المعقود بقطع نحاسية منقوشة، كل تفاصيل حياته الماضية. للتو فقط لاحظ أنها تتشابه تقريبا، لا يفرقها سوى بعض التجاعيد التي رسمت خطوطا رقيقة وانعطافات باهتة على جبينه وقسمات وجهه المستدير ذي الملامح الدقيقة. بيد أن تلك الطراوة التي أخذ الزمن يمحوها تدريجيا ماتزال آثارها تلمع مع كل ابتسامة أو لحظة انشراح. لقد أدرك نجيب جيدا وهو يخلع بذلته الأنيقة بتأن بعد يوم مرهق، أن الإنسان معرض في كل لحظة للتغيرات المزاجية والجسدية. وأنه مهما حاول أن يقاوم الترهل أو يخفي آثار الكآبة، فإن التعب الذي يبدو عميقا خلف العينين، وكذلك حبات الشيب المتناثرة التي تغزو صفحة الشعر الأسود الفاحم بسرعة مذهلة، والخوف الدائم من العلل المختلفة، وغير ذلك مما يصيب الإنسان في لحظات فارقة من العمر، يكشف خصوصية الطبيعة البشرية.
وكعادته دوما في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أصر أن يفتح عينيه بقوة كي لا يستسلم للنوم، وكأنه وقع تحت تأثير المخدر ويقاوم من أجل الحفاظ على شعوره بالوعي. لقد صار يأمل أن يستسلم للنوم من دون أن يخوض تلك الدقائق المملة في انتظاره؛ فالتفكير فيه بالنسبة إليه يعني قضاء الليل يقظا وقلقا. ولعله يريد من الكتب التي يستغرق معظم أوقاته في قراءتها أن تلتقطه من اليقظة لتقذف به إلى السكينة المطلقة من دون أن يشعر بذلك العبور المرهق. وكان يتمنى دوما حين يتأمل حياته الخاصة وأفكاره الخلاقة أن يكون الكتاب آخر ما يلمسه في الليل وأول ما يراه في الصباح. وهو يدرك بحكم اهتماماته الثقافية أن النوم المبكر يمثل ركيزة أساس من ركائز الصحة النفسية والسلام الروحي. ولكن التفكير فيه أو الإعداد له أمر لم يكن يطيقه على الدوام. لقد رسخت لديه فكرة أن النوم ليس سوى محطة ثابتة ومنعزلة وتافهة في الزمن، يسلب الذات الإنسانية النور الذي تمنحه لها الحياة وتمدها بأسباب البقاء.
كان يستلقي على السرير وقد انبعث من الأباجورة الصغيرة المثبتة إلى جانبه ضوء باهت رقيق. وكثيرا ما تنملت أصابعه وهو يرزح تحت ثقل الكتاب الذي يضعه باستمرار على صدره ليرافقه في رحلة الليل. ولكن هذه الليلة، ورغم كل التعب، لم يأت النوم أبدا.