أنت هنا

قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 2

وجدت نفسي عاجزاً عن البحث في هذا الكم من الصور، فقرّرت أن أحمل العلبة معي فأتفرّغ لها بهدوء. كانت العلبة كنـز أمي وذاكرتها و"شريط" ماضيها، وعندما أبصرتني أحملها رفعت صوتها شبه متذمرة، لكنها سرعان ما قالت لي: انتبه عليها وأعدها غداً. بدت رائحة العلبة كأنها لم تفارقني. وعندما شممتها تذكّرت للحين أياماً مضت. الرائحة تلك، رائحة الخشب والصور مشبعة برائحة النفتالين، كانت تهبّ علينا في أول الشتاء، عندما تفتح أمّي السجّاد وتفرشه. كنّا نشاهد تلك الحبّات البيضاء التي تخبئها داخل السجادات قبل أن تلفّها لتحفظها من الحشرات. رائحة النفتالين هذه التي كانت تملأ الخزانة أيضاً صنعت قدْراً من ذاكرتنا الأولى، ذاكرة البيت، ذاكرة غرفة النوم والأغطية الشتوية. وما أحلاها رائحة كانت. ولا أعلم حتى الآن كيف كانت هذه الرائحة تنسلّ إلى علبة الصور فتمكث فيها ولا تغادرها.

لا أعلم إن كنت أكتب إليك رسالة، أيها الأب، لكنني جالس إلى طاولتي وعلبة الصور بالقرب منّي، هذه العلبة التي أصررت ألا أفتحها منذ أعوام، أقلب الآن صورها وكأنني أشاهد شريطاً بالأبيض والأسود. معظم صورك بالأسود والأبيض، بل كلّها على ما أظن. كأنّ زمنك هو زمن الأسود والأبيض، الزمن العاري أو المكشوف، الذي لا يخادع ولا يحابـي. كنت أحمل الصور تلك وألوّنها، أضفي عليها ألواناً كما يحلو لي. أتخيل لوناً لقميصك ولوناً للسترة وآخر للبنطلون. كنت أتخيل ألواناً للمشهد كلّه، للشارع، للرصيف، للواجهات التي في الخلف، للناس العابرين الذين يظهرون أحياناً... كنت أتخيل لون وجهك وعينيك... وكذلك ألوان فستان أمي، زوجتك... هذا ما يمنح الأسود والأبيض سحره ياأبـي. صور تفتح نافذة المخيلة فتروح تلوّن المنظر كما تشاء، تلون العالم كما تحبه أن يكون. ناهيك بجمالية هذا الأسود والأبيض، هذين اللونين المتنافرين اللذين يمتزجان امتزاجاً سحرياً فيتناغمان خالقين لوناً ثالثاً لا هو بالأسود ولا هو بالأبيض. كان يتهيّأ لي دوماً أن "الأبيض والأسود" هو الذي يليق بك، عندما لوّنوا مرّة صورة لك، بدوت غريباً ياأبـي. المصوّر الذي أنجز هذه المهمة لم يفقه سرّك، أضفى عليك ألواناً لم تكن تليق بك ولا تعبّر عن مشاعرك، في تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام الكاميرا. كان هذا المصوّر الأرمني يأخذ الصور بالأسود والأبيض ثم يردّها بالألوان. وكم كانت مضحكة. ما قدّر بالأسود والأبيض لا يمكن تزييفه بالألوان. لم يكن لوناً الأسود والأبيض، كان قدراً. إنّه اللون الذي لا لون له، ليس هو بالأبيض ولا هو بالأسود بل هو كلاهما معاً، وكلاهما منفصلين.

ليس ما أكتبه رسالة إليك، فأنا أعرف جيداً أنّك لن تقرأها ليس لأنك لم تكن تجيد القراءة، مثل أمي، بل لأنها لن تصلك. هل يكتب امرؤ رسالة إلى شخص يعرف أنها لن تصله؟ ولكن ها آنذا أكتب إليك، لا أدري لماذا، ها آنذا أخاطبك وكأنّك شبح مثلك مثل والد هاملت. هل ما أكتبه هو ممّا يسمى "مونولوغ" أم أنني أخاطبك حقاً؟ لا أدري، أيها الأب. كأنني أكتب لنفسي، كأنني أنا الابن والأب. لا أكتب إليك لأجعل منك شبحاً أو طيفاً أخاطبه كما يحسن لي، فأنت شبح وأجمل الكلام ربّما هو الكلام إلى شبح. ولا أخفيك أنّك لو كنت حياً لكتبت لك رسالة أخرى، لقلت لك كلاماً آخر لا أعرف الآن ما هو. فالكلام إلى رجل حيّ ليس الكلام نفسه إلى رجل ميت. كنت أود أن أسألك ماذا تريد أن أكتب إليك، ماذا تريد أن أروي لك، أنت الغائب! ربما كان الأحرى بـي أن أكتب إلى أمّي، لأنها حية ولأنها لن تقرأ ما سأكتبه إليك. أنتما الآن سواء، هي لا تقرأ وأنت لم تبق قادراً على القراءة. ولا أخفيك أيها الأب أنني أكره كتابة الرسائل وقراءتها. لا أدري لماذا. لكنني، مع كرهي هذا، أكتب إليك. نادراً ما كتبت رسائل. لم أتقن يوماً كتابة هذا النوع من النصوص. كنت كلّما سعيت إلى كتابة رسالة إلى فتاة أحبّها، أشعر أنني أكتب ما يشبه الاعتراف المشوب بالبوح. وهذا أكره ما أكره. أشعر أن الرسالة تحمل ملمحاً قدرياً والقدر هو ما عملت طوال حياتي على الهروب منه لا مواجهته. ليصنع القدر نفسه. أما الرسائل القليلة جداً التي كتبتها فكانت خلواً من أي اعتراف أو عواطف. رسائل مختصرة لا تكاد تقول إلا القليل وربّما أقلّ ما يمكن قوله. الرسالة ليست أيضاً طريقة لكسر العزلة التي كثيراً ما عرفتها. العزلة لا تكسرها رسالة مهما أكبّ الشخص على الكتابة متوهّماً أن الآخر الذي يخاطبه هو أمامه أو إلى جانبه. مع ذلك أكتب إليك، لا أعلم لماذا. لكنّ ما أعلمه يقيناً أنني، عندما شرعت في كتابة هذه الرسالة شعرت كأنني أحلم مستيقظاً، الأوراق أمامي، القلم بين أصابعي، أمّا عيناي فسابحتان في سماء متلبّدة. كنت أخاف أن أكتب عن نفسي لا عنك أيها الأب، أن أرسم صورة شخصية أو "بورتريه" كما يقال، لنفسي لا لك، لأنك الغائب ولأنني الحاضر في غيابك لا الغائب في حضورك كما تفترض العلاقة الأزلية بين الأب والابن. لكنني إذ أرسم هذه الصورة الشخصية أجهل مَن هو الرسام ومَن هو الشخص "الموديل". هل أنت الرسام أم أنا؟ هل أنت "الموديل" أم أنا؟

أعترف لك أيها الأب أنني نادراً ما جذبتني هذه "الحرفة" أو لأقل هذا الفن العريق، فن كتابة الرسائل. حتى الرسائل التي أحبّها قليلة جداً وقد تعد على الأصابع. أحببت- أعترف إليك- بضع رسائل كتبها بودلير ورامبو وجبران وريلكه وكيركغارد وفرناندو بيسوا وكافكا وأسماء أخرى لا أذكرها. تشعرني الرسائل بالملل، على خلاف عديد القراء والمبدعين. لا أدري إن كان هذا نقصاً فيَّ أو عيباً. أحببت كثيراً رسائل بيسوا إلى الخطيبة، بدت لي أشبه بالأشراك الحميمة التي راح ينصبها ليتفلت منها هذا الشاعر الذي لم يستطع إلا أن يكون عازباً. أما كافكا فأحببت رسائله إلى فيليس الخطيبة الهاربة التي عجز عن القبض عليها رغبة منه- وربما تواطؤاً مع نفسه- في ألا تأسره. يكتب المرء أجمل رسائل إلى الخطيبة. الخطيبة هي الفتاة الواقفة على حافة حلم قد يتحقق وقد لا، إنها بمثابة نافذة تطل على أيام لا أحد يقدر أن يتوقّعها. إنها أشبه بغيمة صيف تظلّل القلب. فاكلاف هافل كتب أيضاً رسائل جميلة إلى أولغا، زوجته، عندما أدخل السجن. كانت الرسالة حيلته الوحيدة ليكلّمها من هناك، من خلف القضبان. ومن خلف القضبان أيضاً كتب الشاعر عبد اللطيف اللعبـي رسائل مؤثّرة إلى جوسلين، امرأته، طوال عشرة أعوام.

الصفحات