كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "
أنت هنا
قراءة كتاب غرفة أبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

غرفة أبي
قبل أن أنتقل إلى غرفة الأب هذه قرّرت أمّي أن تستبدل أثاثها القديم أثاثاً جديداً على رغم شدّة تعلّقها بالسرير الخشب الكبير والخزانة ذات القشرة اللامعة وسواهما مما يصنع غرفة النوم التي هي غرفة الزوجين. كان الأثاث القديم هو نفسه الذي احتل هذه الغرفة أعواماً، منذ أن انتقلت الأسرة الصغيرة من بيتها الحجر القديم إلى البيت الجديد الذي ارتأى الأب بناءه في عام ولادتي. ارتبط هذا المنـزل إذاً بولادتي وكانت أمّي تُسرّ بهذا العام، عام بناء المنـزل وولادة الصبـي الذي طالما انتظرته، هي والأب. وكان الصبيّ الأول مات لحظة ولادته جرّاء خطأ ارتكبته الداية، فهي بدلاً من أن تمسك بجسمه الليّن لتخرجه أمسكته بعنقه فاختنق للحين وأخرجته ميتاً. ظلّت أمي تخبر عنه طوال أعوام وكيف كان جميلاً وممتلئاً. وقد تولّى الأب والجدّ دفنه في الحديقة عوض أن يُرمى مثل الأجنّة الميتة حيثما كان. هذا الصبـي الذي كاد أن يكون بكر الأسرة لم يغب عن عينيْ أمي. حلّت بها بعد وفاته كآبة عميقة فانـزوت في الغرفة تبكي وتتألم. لم يكن مضى على زواجها سوى عام وكانت لا تزال عروساً، كما يقال، وكانت الصدمة هذه شديدة الوقع عليها ولم تنهض من كآبتها إلا بعد فترة. ثمّ حملت أمّي وكان الوليد فتاة هي أختي الكبرى وسمّاها والدي عبلة تيمّناً بالشخصيات التاريخية الشعبية التي كان يحبّها. ثم ولدت أمّي فتاة ثانية سمّيت ميليا وهو اسم جدّتي والدة أبـي ثم ما لبث أن أصبح اسمها تريز بعد أن نذرت للقديسة الشهيرة "تريز الطفل يسوع" وهي قديسة فرنسية شفيعة الأسر المسيحية في لبنان. ولدت شقيقتي الثانية شبه مريضة وانهمكت أمّي بعلاجها منذ طفولتها، ولم يكن أمامها إلا أن تسلّمها إلى القديسة تريز ناذرة إيّاها لها، مؤمنة أنّها ستنقذها. لكنّها ما لبثت أن رحلت في عمر يقارب عمر القديسة، في الخامسة والعشرين، بعدما عاشت الموت مفتوحة العينين وظلّت تحتضر طوال سنتين، في الفراش. وكان الأطباء توقعوا أصلاً أنّها لن تحيا أكثر من خمسة عشر عاماً، لكنّها قاومت عشرة أعوام أضيفت إلى عمرها القصير، المفعم بالآلام والأوجاع والجروح.
الوليد الثالث كان أنا، الصبيّ الأول في الأسرة وكانت أمّي نذرتني قبل أن تحمل بـي إلى القديس عبدا وهو قديس من بلاد فارس، كان شفيعاً للنسوة العواقر والأطفال. هكذا كان لا بدّ من أن اسمّى باسم هذا القديس، لكنّ اسمي حمل الواو في آخره عوض الألف، فأصبحت عبدو. وهذا الاسم بالواو يجمع بين القديس المسيحي وفكرة العبودية لله. وعبده، بالهاء، هو مختصر لاسم عبدالله الشائع في التاريخ الإسلامي. وأصررت فيما بعد على كتابة اسمي منتهياً بالهاء عوض الواو رغبة منّي في الطابع العربـي للاسم. أما في الهوية والأوراق الشخصية فيُكتب اسمي بالواو. لكنني لم أفهم العبودية لله هنا في معناها الديني، فالله لا يريد عبيداً بل أبناء، وأنا واحد من هؤلاء الأبناء. انتهى عصر العبودية منذ أن بدأ عهد الأبوة. وترسّخ هذا الاعتقاد لديّ منذ أن توفي الأب.
عندما استوليت على غرفة الأب لم أتمكّن من تسميتها غرفة الابن. غرفة الأب تظل غرفته مهما تغيرت أو مهما فعل بها الزمن. السرير الخشب الكبير حلّ محلّه سرير صغير أو "مفرد"، يتسع ما يكفي لجسد الفتى. الخزانة أيضاً حلّت محلّها خزانة صغيرة و"مودرن". البقية الأخرى من الأثاث اختفت، لكنّ السجادة ظلّت هي نفسها، فهي من السجاد الباهظ الثمن. كنت أشعر أنّ أمي ظلت تخفي قدْراً من الألم الخفيف في قلبها كلّما دخلت الغرفة ولم ترَ الأثاث القديم، لا سيّما التخت الخشب الكبير. كان يظهر هذا في نظراتها شبه الحائرة. وعندما نقلنا ذلك الأثاث، كانت تنظر إليه نظرة وداع صامتة وكأنها تودّع زمناً لن تبقى منه سوى ضغائث أو أطياف. كان السرير العريض يعني لها الكثير. كانت مرآة الخزانة الصغيرة أو "الشيفونييرا" كما نسمّيها، صديقتها اليومية، تجلس على الكرسي الصغير أمامها لتمشط شعرها وتضع على وجهها القليل من البودرة الزهرية وتهندس الحاجبين بقلم الكحل... هذا ما كانت تفعله قبل مرض الأب ولزامه الفراش. وما زلت أذكر قنينة العطر الفرنسية الكحلية الزجاج وكانت تحمل اسماً فرنسياً هو "سواريه دو باري". ولو ركّزت قليلاً لاستطعت ربّما أن أسترجع القليل من عبقه الجميل الذي ران كثيراً على الغرفة. إنها ذاكرة الشمّ وأشعر دوماً أنها قوية لديّ. وكم كنت أفاجأ أن العطر قادر أن يعيدني إلى ماضٍ ليس بقريب عندما أشمه، فأتذكر فتاة أحببتها أو غرفة، أو كتاباً. يرحل الأشخاص لكنّ عطرهم يبقى. عطرهم قادر على أن يعيدهم ولكن كما في لمحة برق. العطر لا يمكن التقاطه باليدين ولا مزجه بالحبر على صفحة. العطر يُشمّ فقط، لا يُكتب ولا تبصره عين. وكم من ذكريات ارتبطت في ذاكرتي بروائحها. حتى الكتب عندما أشمّ جوفها أستعيد للحين ما قرأت فيها. كأنّ روائح الكتب تصنع الكتب. وما أجملها تلك الروائح. كأنّ لكلّ كتاب رائحته، مثلما لكلّ كتاب نصوصه. كأنّ للكتاب رائحة هي رائحة البشرة، بشرة امرأة لا تُشمّ بالأنف فقط. حتى الأزهار، عندما أشمّها أسترجع لحظات عبرت. هناك أزهار تذكّر بروائح الجنازة. كم كرهتها تلك الأزهار. هناك ورود تذكّرك بما أحببت، بما تخبّئه في ثنايا ضلوعك. هناك الغاردينيا التي ترجع إليك ربيعاً، بضيائه، ببهجته وسماء سنونواته... الحبق الذي يذكّرك بمصطبة الجدّة والصعتر الذي يحفظ رهبة الأحراج... هناك البخور الذي يخفي في غمامه صوراً وصلوات أليمة أو بريئة... بخور الموتى، بخور العيد ثم بخور مريم ولا أعلم حتى الآن، لماذا سمّيت هذه الزهرة البديعة بهذا الاسم.

