كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "
أنت هنا
قراءة كتاب غرفة أبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

غرفة أبي
في الصغر كنت أحبّ النظر إلى الطابع الملصق على ظرف الرسالة. النظر إليه وليس إزالته عن الظرف. كنت أبصر فيه معالم البلد الذي أتى منه. كنت أشمّ فيه رائحة المدن التي يخفيها في حناياه. أتخيل المسافة التي اجتازها ليصل إلى هنا. كان الطابع بهجة ولو خاطفة. أتخيل حتى الموظف الذي ختمه وساعي البريد الذي حمله إلى الطائرة والطائرة التي نقلته. الطوابع المحلية لم تكن تعنيني. الصور التي تحملها أعرفها جيداً ولا أحتاج إلى أن أكتشفها. أما الطوابع الآتية من الخارج فكانت تشغل مخيّلتي وتبعث فيّ الكثير من الدهشة. وأذكر كيف كانت تجذبني الطوابع الأفريقية الملصقة على ظروف الرسائل التي كانت تبعثها إلينا خالتي من أفريقيا. كنّا نقول أفريقيا ولا نسمّي البلد الذي كانت قد هاجرت إليه. عرفت بعد أعوام أنها كانت في الكونغو، كونغو كنشاسا كما كانت تُسمّى. كنّا ننتظر رسائلها في الأعياد. حتى الورق الذي كانت تكتب عليه كان جميلاً، رقيقاً وذا رائحة عطرة. كنت أُدهش أمام هذه الطوابع، بعضها كان يحمل صورة امرأة سوداء تحمل طفلاً وبعضها صورة الزعيم بعصاه. لم نكن نحتفظ بالطوابع بل بالرسائل، كان ابن الجيران يستولي عليها بفرح. هذا الفتى المولع بالطوابع، كان ينتظر ساعي البريد الذي كان يؤمّ حيّنا مرّة في الأسبوع حاملاً الرسائل ومعظمها كان يأتي من البرازيل وفنـزويلا وأفريقيا... كان ساعي البريد هذا يأتي مشياً في أحيان وعلى درّاجته الهوائية السوداء في أحيان. كان شخصاً ودوداً، شديد اللطافة، لا تفارق الابتسامة وجهه. عندما كان يأتي سائراً، كان يستريح قليلاً في البيوت المتاخمة للطريق. كانت أمي كلما رأته دعته ليجلس قليلاً عند مدخل بيتنا، تأتيه بالإبريق فيشرب ثم يمسح فمه ووجهه بمحرمة يضعها في جيبه. وكان يدخل في أحيان ليغسل وجهه من العرق. وكانت تتدلى على كتفه جعبة ملأى بالظروف والرسائل. ولم يكن يخطئ بالعناوين مع أن البيوت لم تكن مرقّمة ولا الأحياء منتظمة بل كانت متداخلة عشوائياً. وعندما يصل كان الحيّ يعرف بقدومه للفور، فتأتي النسوة إليه سائلات عن رسائل إلى عائلاتهنّ. فالنسوة كنّ يمكثن طوال النهار في البيوت. كان صديقي، جامع الطوابع، يرافقه خلال الصيف في تطوافه في الأحياء القريبة، متصيّداً الطوابع من الناس الذين تصلهم الرسائل، وكان في مرات يلحّ على بعضهم ويرجوهم أن يعطوه الطوابع، وكانت قلّة تتمنع مؤثرة أن تحتفظ بالرسائل كما وصلت. وبات هذا الفتى على صداقة مع ساعي البريد، يهدي إليه فاكهة وعصيراً قبل أن ينطلق برفقته، وكان هو يخبّئ له طوابع يتخلى بعضهم عنها غير مبالين بها. أما عندما كان يأتي الساعي على درّاجته السوداء الكبيرة، فكنا نتحلق حوله، نحن صبية الحيّ، ننفخ البوق الأسود ونشدّ الفرامل العليا بأيدينا. ونحرس الدراجة عندما يقصد بضعة منازل ليوزّع عليها البريد.
ما كان أجمل صورة ساعي البريد هذا، شخص يجوب الأزقة مشياً أو على درّاجة، حاملاً إلى الناس رسائل تُفرحهم أو تُحزنهم. كنت أحبّ اسمه بالعامية الذي كنا نناديه به: "البوسطجي" وعلمت في ما بعد أنّه أجنبيّ أصلاً. لكنني أحببت كثيراً الاسم بالعربية الفصحى: "ساعي البريد" ولا أعلم كيف وضع هذا اللقب أو هذه الكنية، مع أن "الساعي" يعني العامل والجابـي... كم أحببت شخص البوسطجي، هذا الساحر بإطلالته، الحامل البشرى أو الخبر المشؤوم. كانت طرقات البوسطجي على الباب تترجّع في قلوب أهل البيت: ها قد أتت رسالة من هنالك، من وراء البحر أو من خلف الأفق، من البعيد الذي كان حينذاك بعيداً جداً. لم تكن الرسالة تنفصل عن هاجس السفر، فهي تعني أولاً أنها آتية من المهجر، حاملة الكثير من الشوق والحنين. الرسالة الآتية من قلب البلاد لم يكن لها بريق الرسالة الأخرى. الرسالة إما أن تأتي من الخارج وإما لا تكون. المهجر هو الذي كان يضفي على الرسالة وهجها وعلى البوسطجي سرّه الجميل. أذكر أيضاً أنّ البوسطجي كان يحمل برقيات ولم أكن أفهم ما تعني هذه الرسائل الصغيرة المطبوعة بأحرف سوداء.
عندما شاهدت فيلم "البوسطجي" أو "إل بوستينو" أبهرتني شخصية البوسطجي فيه أكثر من شخصية الشاعر التشيلي المنفيّ بابلو نيرودا. شعرت أن البوسطجي هو الشاعر ببساطته المشرقة، وعفويته وحبه وعندما اكتشف مفهوم "المجاز" كما لقّنه إياه نيرودا راح يستخدمه بألق شديد. بعدما شاهدت الفيلم اشتريت الرواية، لكنّ سحر السينما خفّف من حماستي إزاء الرواية المكتوبة مع أنها جميلة أيضاً. أحببت كثيراً عنوان فيلم لا أتذكره جيداً لكنني لا أنسى عنوانه الذي ما زال يثير فيّ حالاً من الفتنة الملغزة: "البوسطجي لا يدق الباب مرّتين"... كم مصيب هذا العنوان. إذا طرق البوسطجي الباب ولم يردّ عليه أحد يكون القدر هو الذي رمى نرده. ستظل الرسالة مغلقة ولن يفتحها أحد أو يقرأها. ستنام في أدراج القدر.

