أنت هنا

قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

لطالما تخيلت القلم إصبعاً من أصابع اليد. قلم من لحم ودم أكثر مما هو من معدن أو بلاستيك وحبر. هذا القلم السحري لا يستمد "نوره الأسود" إلا من الشرايين النازلة من الرأس والمعرّجة على القلب... حبره نور أسود، حبره دم أبيض، لأنه حبر الروح والمهجة والعقل. لا أمتدح القلم إلا لأمتدح الحبر والورق. هل تقوم كتابة من دون حبر وورق؟ هل من رائحة أعذب من رائحتهما عندما يتزاوجان؟ إنها الكتابة بلا رائحة، الكتابة بلا دفء، الكتابة بلا رقة، الكتابة بلا ماء... أليست هكذا الكتابة على الكومبيوتر؟ وقد لا أبالغ إن قلت، إنني طالما خشيت أن تصاب اللغة بالجفاف عندما تدخل الكومبيوتر أو تخرج منه. جفاف أو يباس أو تصلّب أو قسوة... لكنني قد أكتشف قريباً، عندما يصبح الكومبيوتر خياراً أخيراً أن كل هذه الهواجس ليست إلا غيوماً عابرة. سأكتشف أن كل هذه الهواجس لم تكن سوى أوهام بأوهام. وهذا ما يخيفني أكثر. كأنني أودّع بالسرّ زمن القلم والورقة البيضاء التي كم جلست أمامها، حائراً حيناً، مفتوناً حيناً. كأنني أودّع زمن المسوّدات، تلك الأوراق التي كانت تمسي تحت أقلام الكتّاب أشبه بساحة حرب بين الكاتب نفسه وقلمه، فتتشح الأوراق بأزياح سود وخرطشات. وما كان أجمل تلك الأوراق، تخفي الكثير من أسرار الكاتب أو تفضحها بالأحرى. غاب زمن المسوّدات وأضحت الكتب بلا أصولٍ أولى، في ما تحمل هذه الأصول من علامات مخاض الكتابة، وآثار المواجهة السافرة التي يعيشها الكاتب مع الورقة البيضاء. غابت الورقة البيضاء، غاب هاجس البياض الذي كثيراً ما شغل شاعراً يدعى مالارمه. كيف يحيا الشعراء اليوم هذا الهاجس أمام الشاشة الفضية؟

لا أتخيل نفسي بلا قلم، لا أتخيل نفسي شخصاً يكتب باليدين معاً، أنا الذي كنت وما زلت أعسر، أنا الذي تميّزت بصفتي أعسر. القلم جزء حميم من الحياة اليومية ومن دونه تبقى الحياة في حال من النقصان. الكتابة طقس عماده القلم والورقة ولا كتابة بلا طقس. الكومبيوتر يعجز عن صنع هذا الطقس، مهما أحببناه وأحنينا عليه. الكومبيوتر آلة باردة، آلة اصطناعية، لا يمكنك أن تخلو إليها أو تخلو بها، ببراءة وطمأنينة. أما القلم فدفء وحرارة. يكفي أن يغسله في أحيان عرق الأصابع ليصبح ندياً نداوة الأصابع نفسها. الحبر على الورقة لا يخدع، أما الحرف على الشاشة فخدّاع والويل لمن يقع في شرك خداعه. على الورقة يُعمل الكاتب قلمه، يشذّب ويحذف ويسوّد و"يخرطش" كما يقال بالعامية، أما على الشاشة فقد تخدعه الصفحة المضاءة وقد تغشّه الأحرف المشعة، فيظن أن لا حاجة به لأن "يسوّد". وهذا ما أخشاه حقاً. يشعر الكاتب أنه لا يحتاج إلى مسوّدة، فيكتب ويكتب. هكذا تفقد الكتابة أسرارها التي لا تحفظها سوى المسوّدات. هل تُكتب الكتب بلا مسوّدات؟ أعرف أنّ هذه الشجون لا تعنيك أيها الأب. أنت لست بكاتب ولن تكونه يوماً. لكنها لحظة شوق تشرق فيّ، لحظة حارقة لا تخبو، لحظة حنين إلى زمنك أيها الأب، هذا الزمن الذي خرجنا منه وأصبح وراءنا.

عندما دخلت غرفتك بحثاً عن العلبة التي تضمّ صور العائلة وبينها صورك القليلة، شعرت كأنني أدخلها للمرّة الأولى. نسيت لوهلة أنها كانت غرفتي لأعوام وأنني ورثتها عنك واحتللتها لأحلّ مكانك. تراءى لي ذلك الفتى الصغير الذي كنته والذي كان ينسلّ إلى الخزانة ويفتحها سراً باحثاً في محتوياتها عمّا لا يعرفه. كانت متعة البحث في خزانة الزوجين، الأب والأم، وحدها الحافز على مثل هذا الفعل. رائحة الخزانة ما زلت أشمّها، رائحة خشب ممزوجة بروائح عطرة. أبصرتني في تلك اللحظة الفتى الذي كنته، أبصرت السرير الذي أتذكرك راقداً عليه، عليلاً، يحلّ بك عياء، تأكل فيه ولا تغادره إلا إلى الحمّام. كانت تلك لحظاتك الأخيرة التي لا أذكر كم امتدت. ثم أصبح السرير فارغاً. فراغ السرير كان يعني رحيل الأب. أمي هجرت الغرفة حزناً وأسى، فترةً لا أعلم كم، ثمّ عادت إليها. كان لا بدّ لها من الرجوع إلى سرير الزواج. جسدها يحتاج إلى جسدك ولو غائباً. ذكرى الجسد تكون في أحيان أقوى من الجسد نفسه.

عاودتني هذه الصور والأفكار عندما فتحت باب الخزانة. لا أعلم لماذا تذكرتك في تلك اللحظات، لماذا أبصرتك بما تبقى من ملامحك في هاتين العينين، عينيّ طفلاً. الغرفة نفسها ما عادت تذكّر بك، لقد تغيّرت مراراً. ورثتها عنك برضا أمي بعدما قرّرت أن تنتقل إلى غرفة إخوتي. ثم عندما غادرتُ بيت الأهل أقام فيها أخي. والآن بعدما غادرها أخي، هي غرفة لا أحد، قد يحل بها بضعة ضيوف عابرين وهم نادرون أصلاً. لكنها ما زالت غرفتك أيّها الأب. لا أدري لماذا أصرّ على تسميتها باسمك. كأن البيت لا يكتمل من دون غرفة تسمى غرفة الأب. كم تأثرت عندما قرأت نصّاً لشاعر صديق لا أعرفه عاش في ألمانيا في القرن التاسع عشر ويدعى نوفاليس يقول فيه: "لا يشعر الفتى بالأمان إلا في غرفة أبيه". إنها غرفة الأب التي لا بدّ منها كي يشعر فتى مثلي بالأمان، حتى وإن كان الأمان متوهّماً. كنت أكتفي بأن أقيم في هذه الغرفة لأشعر بالقليل من الطمأنينة. فظلُّ الأب لا يغادر مهما شعر بالعزلة أو البرد. وفي ملامح هذا الظل كان على الحياة أن تكون أقل كآبة. احتللت الغرفة أعواماً لكنني ظللت أسمّيها غرفة الأب. الابن لا يمكنه أن يستولي على غرفة أبيه فيسمّيها غرفته، قد يرث كلّ ما يملك أبوه وما لا يملك، لكنه يظل في حاجة إلى غرفة أبيه في هذا العالم.

الصفحات