أنت هنا

قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 3

لا أخفيك، أيها الأب، أنّ رسالة كافكا إلى والده أحدثت فيّ حالاً من القلق، ولعلها هي التي حفزتني على الكتابة إليك، مع أنني كنت أعلم أنني إذا قرّرت كتابة رسالة في يوم ما، فهي ستكون لك، لأنك لن تقرأها. وهذا أجمل ما يمكن أن تحظى به رسالة، ألا يقرأها الشخص الذي وجّهت إليه. وهذا ما حصل فعلاً مع كافكا، فرسالته الشهيرة هذه لم يتسنّ لوالده أن يقرأها. إنها بقيت بلا قارئ، حتى وإن تلقفها قرّاء لا يحصون في العالم. فما دام الوالد لم يقرأها فهي ظلت مجهولة لأنها أصلاً رسالة إليه. تأثرت بهذه الرسالة لكنني لم أسع إلى تقليدها، فكافكا عرف والده عن كثب وعانى الكثير من وطأة الأبوة، وكان، عندما كتبها، يهجس بأمور يريد حسمها مع والده. إنها، إذا شئت، رسالة إدانة، لكنّ كافكا هو الذي يؤدّي فيها شخص "الطاغي" ولو كان أشبه بمتسوّل، كما يعبّر. كان كافكا في التاسعة عشرة عندما قرّر أن يقاضي أباه. أنا أكتب إليك في الثانية والخمسين، أنت الذي غبت في الثامنة والأربعين. ماذا يمكن أن يكتب الابن إلى أب أضحى أصغر منه؟ إنني الآن أكبر منك وسأظل. لكنني عندما أكتب أشعر أنني ابنك الصغير الذي كبر فجأة. لن أقول لك ما قاله كافكا لوالده: "كنت أنسحق بمجرّد وجودك أمامي". أنت لست بموجود، قد تكون روحك هنا أما جسدك فلا. لكنني أنا هنا، بجسدي، جالس إلى طاولتي وأمامي أوراق وأنت أمامي أو ورائي، شبح أخاطبه ولكن مخاطبة الابن لأبيه، الابن الذي بالكاد عرف أباه، الابن الذي لا يخشى أباه لأنه أصبح أكبر منه. كتب كافكا إلى والده ليجيبه على سؤال كثيراً ما عجز عن الإجابة عنه مشافهة ووجهاً لوجه. يقول له: "سألتني أخيراً لماذا أدّعي أنني أخافك"، ثم يضيف: "كالعادة لم أعرف البتة كيف أجيبك". هل كان يعلم كافكا أنّ والده لن يتمكّن من قراءة الرسالة فراح يقاضيه كاشفاً ما يعتمل في داخله من كراهية؟ ما أصعب فعلاً أن يقول الابن لوالده: "غالباً ما كنت أهرب منك باحثاً عن ملجأ في غرفتي، بالقرب من كتبـي، مع رفاق مجانين أو أفكار غريبة". ومع أنّه يعترف بأنّ بينهما حالاً غير سويّة فهو يبرّئه لأنه غير مذنب كما يقول له. لم يسع كافكا إلى تسوية هذه الحال مع أبيه، فهو يعلم جيداً أنه "الابن الضعيف، المضطرب، المتردّد والقلق". ويعترف له أنه كان ليكون سعيداً لو أن الوالد كان بمثابة صديق أو عمّ أو جدّ. كان يحلم بأن يكون والده شخصاً، أيّ شخص، ولكن ليس الوالد. هل يمكن المرء أن يهرب من أبيه؟ هذا ما لم يجب عنه كافكا إلا مداورة، لأنه كان يعلم أن الوالد هو بمثابة القدر الذي يستحيل تخطّيه. هذا الولد الخائف لم يسعفه عناده في التخلّص من ظلّ أبيه.

لا أعلم لماذا جذبتني رسالة كافكا هذه. الأب الذي أسمّيه أبـي لا يشبه البتة والد كافكا. تقول أمّي إنه لم يكن قاسياً كما كان من المفترض على الآباء أن يكونوا. قرأت رسالة كافكا مرّتين، لم أبهر بها مثل نصوصه الأخرى، لكنّها أثرت فيّ. رحت أفتش فيها عن ملامح الأب، هذا الأب الذي أجهله والذي طالما خشيت فكرة حضوره. غياب الأب أصعب من وجود أب تصطدم به أو تحبه أو تحترمه. إنها فكرة الأب، فكرة أب وجِد ولم يوجد. قرأت رسالة كافكا مع أنني أكره قراءة الرسائل وكتابتها. هذا فنّ يدعو إلى الملل، مهما ارتقى به أصحابه. حتى الروايات المكتوبة على طريقة الرسائل ما كانت تجذبني. قرأت "العلاقات الخطرة" فأحببتها وضجرت في الحين عينه، ولولا مديح بودلير لها لما أقدمت على قراءتها. الرسائل تبعث فيَّ السأم. ما أريد أن أقوله للآخر أود أن أبقيه لنفسي. أكره الحوار مع هذا الآخر، وإن كان صديقاً أو حبيبة. الكلام الحقيقي هو الذي لا يقال، وأجمل كلمات يمكن أن تُكتب إلى امرأة تختصرها نظرات تقول كلّ شيء من دون كلمات. الكلام يكذب دوماً، حتى إن كان صادقاً، يكذب. الكلام يعجز دوماً عن قول ما يريد قوله، أو لعله يقصّر في قوله. كان لي صديق يهوى كتابة الرسائل، كان يكتب إلى أشخاص يعرفهم وآخرين لا يعرفهم، لكنه لم يكن يبعث بها إليهم. يكتب الرسائل فقط، يمزّق بعضها ويخفي بعضها في أدراجه. كان يهوى هذا الفنّ، ويتمتع به كفعل بذاته. لا يهمّه لمن يكتب. فالشخص الذي يتوجه إليه لم يكن إلا ذريعة للكتابة. لم يكن ينـزل إلى مكتب البريد ولم تكن تعنيه فكرة الطابع البريدي، على خلاف بضعة أصدقاء كانوا يهوون جمع الطوابع. وهذه هواية لم أفهمها يوماً. ماذا يعني أن يسعى أناس إلى جمع الطوابع وحفظها في مجلدات؟ هذا شغف شبه مرضي. ترى هؤلاء الهواة ينقضون على الطوابع بحماسة أو شراسة يمزّقون الرسائل ويسطون على طوابعها، ثم يحملونها إلى المجلدات لتنام فيها. وكم من هواة دفعوا مالاً كثيراً ليحصلوا على طوابع قديمة.

الصفحات