أنت هنا

قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 8

عندما أخرجنا الأثاث القديم من الغرفة شعرت أمّي أن زمناً انتهى فعلاً وأنّ على أنقاضه سيبدأ زمن آخر. زمن الأب الذي كان زوجاً أضحى زمن الابن الذي لم يسع يوماً إلى قتل الأب والاستيلاء على زوجته. الأوديبية لم تعنِ لي أمراً. كنت في أحيان كثيرة أظنّها مزحة سمجة، على رغم رهبتها. كان لي صديق شديد التعلّق بأمه، كان متعلّقاً بها بجنون، لم يستطع أن يتركها يوماً ولم يحبّ امرأة ولم يتزوّج. ظل ينام في غرفة أمّه، على سرير يشبه سريرها حتى لحظة انطفائها. كان والده رحل باكراً ولم تبق له سوى هذه الأم هو الابن الوحيد، ولم يحبّ سواها. عندما توفيت أمه بكى بكاء امرأة، كما كانوا يقولون، ولم يقدر على أن يتحرّر من حبّها. لو كان والده حياً لنافسه حتماً على حبّ زوجته التي هي أمّه، ولعلّه قتله كما تزعم أسطورة أوديب.

منذ ذاك اليوم الذي بدّلنا فيه أثاث الغرفة، أصبحت الغرفة غرفتي. السرير غيّرت أمي مكانه لئلا يذكّرها ربما بالسرير القديم. سريري بات ملاصقاً للنافذة، وفي محلّ الخزانة وضعنا طاولة لأدرس عليها وأكتب وأقرأ. لم تكن الغرفة مكتملة، الأثاث قليل، أثاث فتى لا أكثر ولا أقل. لكنها راحت تمتلئ على مرّ الأيام، الجدران حملت صوراً للأب ولبضعة قديسين، علاوة على صورة المسيح مضفوراً بالشوك، متألماً، يخضّب الدم وجهه. وأذكر أنّ صديقاً لي أتاني بصورة لتشي غيفارا الذي كان يحبّه، فوضعتها في الدرج ولم أعلّقها، على خلافه هو الذي علّق لهذا المناضل أكثر من صورة في غرفته. الكتب وحدها راحت تزداد في الغرفة ووحدها التي ظلت تزداد.

أذكر كيف أنني لم أنم جيداً في ليلتي الأولى في غرفة الأب. كنت شبه خائف ومسروراً في آن واحد. تخيّلت وجه أبـي الذي كثيراً ما رنوت إليه في الصورة المعلّقة على جدار الصالون. فكّرت فيه كثيراً واستعدت ما بقي من ملامحه في الرأس، وهي ملامح ما لبثت أن امّحت أو اضمحلّت عاماً تلو عام. ولولا الصور لما استطعت تذكّر وجهه وأشيائه القليلة. تستيقظ ذاكرة الطفولة في أحيان في ما يشبه المعجزة، فأبصر وجوهاً وأشخاصاً ومناظر أفاجأ كيف أتذكّرها بقوة وصفاء. أما أبـي فلا أتذكّره إلا من خلال الصور وبضعة ملامح تلوح في عتمة الرأس.

لا أعلم إن كان ما أكتبه على هذه الأوراق البيضاء، هو رسالة لك. قليلاً ما كتبت رسائل في السابق، لكنني أكتب إليك وكأنّك أمامي، أخاطبك وكأنني أخاطب نفسي، أروي لك بعضاً مما أذكره، مما لا يزال عالقاً في ذاكرة الفتى الصغير الذي كنته، أروي لك- ولي- أيضاً، بعضاً ممّا جمعته من هنا وهناك، ممّا سمعته من أمي، من بضعة أصدقاء لك، كنت تحبّهم وقد رحلوا الآن جميعاً ما عدا جارنا الذي تخطى التسعين. إنها أخبارك القليلة أجمعها مثلما يجمع طفل قطع "البازل" ليصنع صورة أو منظراً. أجمع هذه الأخبار وأعجز عن صنع صورة لك، صورة شخص لم يكن بطلاً ولم يحلم يوماً في أن يكون بطلاً. شخص عبر من دون أن يترك وراءه أثراً. أعترف لك أيها الأب أنني أمضيت أعواماً أبحث عن أثر لك فلم أجد. وما كنت لأحزن أو أندم على خطأ لم أرتكبه أنا ولا ارتكبته أنت. كنت أتعزّى عندما أنظر إلى نفسي وأقول: سأكون أبـي. لكنني لم أكنك يوماً. كيف أكونك وأنا لم أعرفك؟ كيف أكونك وأنا أرفض أن أكونك؟ كنت أدرك أنني لم أرث عنك سوى هذه الطيبة التي أمضيت عمراً أحاربها لأتخلّص منها. الجميع أخبروا عن طيبة القلب لديك، القلب الذي أعلّته الطيبة، القلب الذي جعلك رجلاً وديعاً لم يحقق سوى حلم واحد هو الأبوة. كنت أباً للجميع، تقول أمي. حتى لأبناء عمّي، العمّ المقامر والعاشق الهارب، كنت أباً. أنت ربّيتهم أيام كان العمّ غائباً لأعوام مع عشيقة له في دمشق. هكذا روت أمي، بل هكذا روى أبناء أخيك الذين ظنّوك أباهم. كنت أيضاً أباً لأبيك، جدّي الذي يميل إلى الشرب ومغازلة النسوة والانفاق عليهن. كنت تحبه على رغم العتب الذي تكنّه له. باع بعض أملاك العائلة ليتمتع بحياته وينفق بلا هوادة. كنت أباً لأمك أيضاً، أمك التي كنت تركع أمام سريرها حين احتضارها وتقبّل يديها. كان عليّ أيها الأب أن أتخلّص من هذه الطيبة التي ورثتها عنك مثلما ورثت داء القلب الذي قضى عليك وتمكّنت أنا من أن أواجهه وأحيا. هذه الطيبة ما كان أثقل وقعها عليّ. ظننت أنني تخلّصت منها. ولكن لا أعتقد. دفنتها في تراب الذاكرة، لكنّها ما لبثت أن استفاقت. جدّفت ضدّ هذه الطيبة وأنكرتها مرّات، تبرأت منها خائناً نفسي. ولكن عبثاً.

ماتت شقيقتي في غيابك أيها الأب. شقيقتي تريز التي كان اسمها ميليا وقد بدّلته أمّي، لعلّك تذكر، بعدما نذرتها إلى القديسة تريز الطفل يسوع إبّان مرضها طفلة. أصبح لها مذّاك اسمان. اسمها في الهوية كان ميليا أمّا في الحياة فهو تريز. ولم يربكها هذا التعارض يوماً لأنها لم تعش كثيراً لتحتاج إلى اسمها الأول، كما يحصل عادة عندما ينال الطالب شهادة أو عندما يلتحق بوظيفة. لم أقصد يوماً أن أتبيّن بدقة كم سنة عاشت. كنت أتناسى قصداً. ماتت في مقتبل العمر. لم أعدّ تلك الأعوام القليلة، لم أشأ أن أعدّها. قررّت أن أدعها تعدّ نفسها. وكان يردّد طبيبها أنها ربحت بضعة أعوام زائدة بعدما كان قدّر لها أنها ستموت باكراً. عاشت أكثر مما توقع لها الطبيب. قهرت الموت، قهرته ولكن مقهورة، ماتت مفتوحة العينين، ترقب حلول الساعة يوماً تلو يوم. لا أعتقد أيها الأب أنك كنت قادراً على النظر في عينيها وهي على سرير الاحتضار. كان جسدها انتفخ جرّاء الماء الذي لم يكن ينصرف منه، وكانت تتكلم بصعوبة كما لو أنّها تختنق. تنظر إليك بأسى وتقول كلّ ما تبغي قوله دون أن تلفظ كلمة، فتحار أنت أمام نظراتها، تذكر أنّك عاجز عن فعل أي أمر، لا تقدر أن تخفّف عنها وطأة الألم ولا أن تطرد شبح الموت الذي يحلّق من حولها. نظرات مكسورة لم أكن أواجهها إلا بنظرات مكسورة. في الأيام الأخيرة لم أعد قادراً على رؤيتها، لا حزناً أو ألماً، بل حيرة وارتباكاً، بل اضطراباً. الألم يتضاءل في مثل هذه اللحظات. تمسي أنت مشاهداً وتعتاد مثل هذا المشهد الرهيب. ليس ما هو أقوى من نظرات شخص يحتضر. يعرّيك بتلك النظرات، يفضحك، يذلّك، يقهرك ولكن من غير قصد منه. تشعر أمامه أنك أنت مَن يحتاج إلى الشفقة، إلى الحنان، إلى المواساة والرحمة. أمام تلك النظرات تشعر أنك أصبحت حبة رمل، نقطة ماء تسقط، صفراً... وقد تشعر أيضاً أنّ المحتضر هو الذي يعينك لتقف أمامه وتنظر إليه.

إنّها لحظات أليمة أيها الأب، قاسية وأليفة، جارحة برقّتها، حارقة بما تحمل من مأساة قدرية. هل ألقيت تلك النظرات على سرير احتضارك؟ كيف أبصرت الذين ينظرون إليك في تلك اللحظات المريرة؟

ماتت شقيقتي في غيابك، فتاة في مقتبل الصبا، في منتهى الألم والفقدان، وقد حمّلتها النسوة وهي على فراش الموت سلاماً إليك. هل وصل السلام؟ كنت أضحك بالسرّ كلّما سمعت النسوة يحمّلن الموتى الذين يبكينهم هذا السلام إلى موتى سابقين. أظن أن هذا الأمر هو أقصى ما يمكن أن تبلغه العبثية. وأحياناً كانت إحدى النسوة تصرّ على تعداد أسماء موتاها الذين ترسل إليهم سلامها.

عندما ماتت شقيقتي لم أستطع أن أبكي، ياأبـي، عصيني الدمع وخجلت من نفسي ومن الآخرين. كان يجب أن أبكي عنك أيضاً لأنني الابن الكبير، ففي مثل هذا الموقف يجب أن تبكي وإلاّ... وعندما يخون الدمع فهو، يخون حقاً. الناس يعزّونك ناظرين إليك وانت لا تبكي. هم يستهجنون وقد يعتبون، ظناً منهم أنك قاسي القلب. مع أن الدمع لم يعد يجدي في تلك اللحظة، فات وقته، بعدما أغلق المحتضر عينيه. لكنها تقاليدنا المضحكة.

أصبحت شقيقتي قديسة ولم تحتجْ لأن تُعلَن قداستُها. قديسة بالألم الذي كابدته، بالحياة التي لم تعشها، بالحيرة التي خالجتها، بوجهها الذي ظلّ سماوياً، بجسدها الذي كان من جروح، بروحها الفسيحة... هذا ما سأظلّ أعتقد به، أيها الأب، مهما تقدم بـي العمر، أو أخذني الشك أو حتى لو أصبحت ملحداً. إنها الآن تباركنا. تباركنا بعدما منحتنا حياتها ورحلت. قلْ إنني ساذج. قلْ إنّه الطفل الذي لم يغادرني، هو مَن يتكلم هكذا. لم أعلن يوماً هذا في سبيل التعزية، كما جرت العادة، بل إيماناً منّي بأن الدموع التي ذرَفتْها بالسرّ هي وحدها تكفي لتجعل منها قديسة. فالدموع تزن في حساب الله.

الصفحات