تسلقت تلك الأسوار المشيدة من الألم والمرصوفة بالآهات... اقتحمتها حاملاً قلماً حبره الصدق وريشته الأمان... تداخلت بين ردهات الأسرار... فتشت في صفحات العذاب... تعمقت في جنبات الغموض.. أبحرت في شطآن الوضوح... حاورتهم بقلب حان...
You are here
قراءة كتاب أسرار خلف الأسوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ازدادت حالتي سوءاً فوق سوء وتدرجت في اعتلاء قمم الضياع ومن مدمن إلى مروج وناشر لتلك السموم، اجتمع أفراد أسرتي وعُقد مجلس للعائلة وعندما باءت جميع محاولاتهم لعلاجي وإصلاحي بالفشل قرر إخوتي أن يغيروا كل شيء حولي حتى الهواء الذي أستنشقه.... جاؤوني في المنزل وأنا أتسامر مع معشوقتي... وأسبح في نشوتي....... أركبوني معهم في السيارة وأنا في وادٍ غير الذي هم فيه صحوت وإذا بي في مدينة تقع في الوسط الشمالي للبلاد معروفة بأنها من ينابيع العلم الذي لا ينضب ومن أشد المجتمعات حفاظاً على الدين والتقاليد وأودعوني أصدقاء لهم من طلبة العلم في تلك المدينة وكانوا بحق أخوة لم يخرجوا من رحم أمي.. فقد خففوا من ألمي وأزاحو همي الذي سكن وجداني.. بعد ما يقارب اليومين زال وجع الانقطاع عن المخدر (الأعراض الانسحابية) وبعد أن استقرت حالتي وبُثت العافية في جنبات جسمي انخرطت معهم في طلب العلم الشرعي وأخذته عن أفضل علماء الأمة ومن أبرز مشايخها المعروفين في تلك الفترة.. عشت في ذلك النور الذي أضاء ظلمات فؤادي وأصبحت محافظاً على الصلوات في المسجد والسنن الرواتب ومداوماً على قراءة القرآن الكريم الذي كان رفيقي الدائم وأبحرت في الكتب والمجلدات أستزيد من كنوزها النفيسة، كنت من المحسوبين على طلبة العلم، واستمر ذلك الحال ما يقارب الستة أشهر وكان في تلك الفترة أخوتي يأتون لزيارتي ويتفقدون أحوالي ويطمئنون إلى صحتي، وفي أحد الأيام بعد الانتهاء من الدرس اليومي الذي ننهل من إحدى حلقاته العلم جاء أحد الإخوة وأخبرنا بأنه مسافر إلى مدينتي الساحلية ومسقط رأسي لقضاء بعض الأمور الخاصة وأنه على استعداد لتوفير جميع حوائج الإخوة التي يرغبون فيها ويحتاجون إليها من تلك المدينة وقبل أن ينهي عرض خدماته باغته بقولي:
- لا أرغب في حاجة من هناك ولا أتمنى مطلباً سوى أن أكون أنا هناك!!! لكي أجمع روحي بجسدي وسط أحضان أسرتي.
قررت أن أعود معه بعد أن سمح لي مضيفي بذلك وأخذ الموافقة من إخوتى وكان قرار السفر ذلك من أجل إطفاء الشوق الذي اشتعل وسكن داخلي إلى جميع أفراد أسرتي، كانت رحلة السفر طويلة مررنا بمدن كثيرة وقرى تتداخل معها هجر عديدة... أعرف بعضها اسماً وأجهل الكثير منها اسماً وموقعاً، كنت قابعاً في المقعد الأمامي في السيارة ولكن فكري يسبقني يقبل يد والدي ويرسم ولعي في جبين والدتي ويحتضن إخوتي ويلملم جميع اسرتي داخل قلبي، كنت اسرح مع خيالي وخصوصاً مع أبنائي ذلك الحلم الذي أضعته في فترة من حياتي وأتشوق إلى رؤية أصغرهم ذلك الطفل الذي غمره بحب كل من عرفه لروحه الشيقة التي تمتزج بالطيب والمرح وتتوجها براءة الطفولة... آه آه آه كم أنا مشتاق إليك يا أديب.!. مشتاق إليكم جميعاً.
فرح أهلي.. فرحوا بعودة انسانيتي.. فرحوا برجوعي إلى الصواب.. سعدوا بعودة الحلم الضائع.. ولكن للأسف أفاقوا من ذلك الحلم أو الأصح أجبرتهم أن يفيقوا حيث لم يمض سوى عشرة أيام حتى رجعت إلى سابق عهدي وأخذت أنسلخ شيئاً فشيئاً مما اكتسبته في الأشهر الستة التي قضيتها في رحاب طلب العلم والمعرفة مع الرفقة الصالحة حيث أن ذلك لم يكن نابعاً من داخلي ولكنني أجبرت عليه!!!
عدت إلى الترويج ولكني أصبحت شخصاً معروفاً ووجهاً مألوفاً لدى أفراد مكافحة المخدرات، قررت أن اتبع أسلوباً جديداً في الترويج لكي أتفادى الوقوع في أيدي رجال مكافحة المخدرات وبعد التفكير الشيطاني المرير جعلت لي درعاً حصينة.. ورداء يغطيني.. اخترت ابني أديب، لم يكن يعرف عن تلك السموم وكان ابن الست سنوات.. لطخت براءة الأطفال بالسموم.. قتلت الحلم الناشئ في مهده.. اقتحمت ألفة الصغار بوحشية... أديب هو المكان الآمن الذي أضع فيه الهيرويين وأتنقل به بحرية حتى في مناطق التفتيش التي يزدحم فيها أفراد الأمن واستمررت على هذا الحال ما يقارب العامين... اصبح أديب من رواد الأماكن المشبوهة ومن مرتادي بؤر الخراب والفساد وأنا من يجره إلى تلك الأماكن في غياب قلب الأب وموت الإحساس بالأبوة تجاه أبنائه...... في أحد الأيام كنت على موعد مع أحد « المروجين» الذين امتهنوا بيع السموم تجارة لهم لأخذ حصتي من الهيرويين وأبيعه بين الأموات وكان ذلك في ذروة الصيف وأشد ظهائرها قيظاً، حيث أوقدت الشمس لهيبها وغدت الوسيعة وكأنها بساط من الجمر وحرها يذبل الجلود ويفتت الصخور حتى أن ظلها يبحث عما يستظل به، أجلست أديب في المكان المتفق عليه مع التاجر وذهبت أنا أراقب من بعيد، كان أديب يستظل من حرارة الشمس القاسية بيديه الصغيرتين اللتين تبحثان عما يقيهما ذلك اللهيب المحرق، كان يتضور جوعاً لأنه لم يتناول شيئاً من الصباح ويئن شوقاً إلى جرعة ماء ليروي ظمأه وتوهج عطشه، لم أدعه يأخذ « قرشاً» واحداً من المبلغ الذي وضعته في يده لخوفي من خوض غمار نقاش عقيم مع التاجر بسبب نقص المال، حرمت ابني من أن يأكل ليسد جوعه ويتقوى من أجل أن أشتري السموم التي أتجرعها لقتلي، وأثناء طول الانتظار كاد أديب يسقط من حرارة الشمس وأخذت علامات الاجهاد ترتسم على الجسم السقيم، جاء التاجر وأخذ المال من يد أديب ووضع كيس الهيرويين في يده وجاءنى أديب مسرعاً فأمسكت بيده وأصبحت يدانا متشابكتين والهيرويين بينهما في حرز الاب وابنه..... غذذنا الخطى نحو المنزل وفي هذه الأثناء اعترضت طريقنا فرقة من مكافحة المخدرات ونزل اثنان من السيارة... ومن هول وفزع الحدث ورهبته فككت يدي من يد أديب، وجهوا أسلحتهم باتجاهنا وعندها أفقت من سباتي العميق وأحسست حقاً بإبني وأخذت مشاعر الأبوة تتحرك وتستيقظ من جديد... أدركت أن أديب هو ابني، لم يمزق لحظات شرودي تلك إلا صوت جهوري يصرخ بأعلى نبراته:
- «حرام عليك.. اتق الله.. خاف الله.. حرام عليك مو علشانك علشان الولد الصغير هذا»، كان ذلك أحد رجال مكافحة المخدرات.