كتاب " عصر إنحطاط الإمبريالية " ، تأليف أحمد عز الدين ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب عصر إنحطاط الإمبريالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عصر إنحطاط الإمبريالية
لماذا –إذن- أقول أن هذه التطورات فى ملامح وأدوات الاستراتيجية العسكرية الأمريكية ، هى التى حددت ملامح طبيعة التطور فى بنية الإرهاب ، وهى التى أكسبته تلك الطفرة الهائلة التى سمحت له أن يلعب فى سماء أمريكا مباراة دموية من طرف واحد ، لأن هناك على وجه العموم ، لكل ظاهرة واسعة فى الحياة ظلا آخر ، قد يكون نقيضها أو وجهها الآخر الذى تتحرك آلياته الذاتية للتكيف مع منطقها وآليات عملها ، لأنه يتغذى عليها، ويعمل تحت شروطها ، وفى هذا السياق يمكن التوقف أمام النتائج التالية :
أولا: لقد ترتب على طبيعة ميادين المعارك التى فرضتها أمريكا ، واستخدمت فيها تكنولوجيا متطورة الرمى من بعيد ، قيود جبرية للفجوة التكنولوجية الواسعة ، بتلقى الضربات فى صمت ، وتحمل الخسائر البشرية والمادية فى سكون ، اللهم إلا مع إبداء بعض مظاهر المقاومة ، التى لا تدفع دمارا يتساقط من السماء ، موجها كأنه المقادير ، فضلا عن أن تتوافر أية فرصة ، لإبداء رد فعل عسكرى مضاد ومؤثر .
ولهذا كان منطقيا أن تستند مادة التفكير الأولى ، لإلحاق خسائر مؤثرة ، إلى مبدأ نقل المواجهة إلى أرض الآخر ، لكى يمكن الخروج من قيود ميدان المعركة المفروضة ، وتتاح فرصة فرض قواعد جديدة ، يتيحها هذا الميدان .
ثانيا: لقد ترتب على استخدام تكنولوجيا الرمى من بعيد ، والقصف من الفضاء ، مع تكثيف القوة ، وتعظيم مصادر النيران ، أى على توسيع مسافة الرمى بالدرجة الأولى ، أن يتحول التفكير على الجانب الآخر ، إلى قناعة بأنه لا سبيل إلى تكثيف القوة ، وزيادة درجة التدمير ، سوى بتقليل مسافة الرمى ، أو على وجه أصح بإزالتها كليا ، أى لكى تتوافر أقصى درجات التدمير وتكثيف القوة ، فإنه لا بديل عن الالتصاق بالخصم ، وتحميل قوة التدمير على أدوات بشرية ، تقوم بنفس المهمة ، التوصيل والتفجير ، وإذا كانت أهداف التدمير المنتخبة ، بحكم حجمها وقوتها ، تحتاج إلى قوة صدمة كبيرة بالنيران ، فقد تم تحويل الطائرة المدنية إلى ما يشبه صارخ أرض/ أرض ، بتوجيه بشرى مباشر ، اعتمادا على قوة اندفاع الطائرة ، وشحنة وقودها ، ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة اختيار طائرات من طراز بوينج 767 و 747 ، فإحداهما تزن 180 طنا وتحمل 30طنا من الوقود ، والأخرى تزن 250 طنا وتحمل 45 طنا من الوقود ، بينما تصل قوة الصدمة فى الحالتين إلى حوالى 400 كم/ساعة .
ثالثا: ترتب على هذا المبدأ نفسه ، استخدام تكنولوجيا الرمى من بعيد ، لمنع الخسائر البشرية كليا ، بروز نقطة الضعف الشديدة فى المكون الأمريكى ، من عدم القدرة على تحمل أية خسائر بشرية ، ولهذا اتجه التفكير المضاد ، إلى دائرة محددة هى السعى إلى استغلال هذه النقطة الأكثر ضعفا وأشد إيلاما ، وأوضح تأثيرا ، بإحداث أكبر قدر من الخسائر البشرية .
ولهذا لا أعتقد أن التوجه نحو تفجير مبنيى مركز التجارة العالمى ، كان ينطوى على هدف رمزى ، باعتبارهما يمثلان عظمة أمريكا ، أو قلب قوتها الاقتصادية ، وإنما كان ينطوى على هدف عملى بإحداث أكبر قدر من الخسائر البشرية ، بحكم أعداد العاملين والمترددين عليهما .
وحتى اختيار مبنى البنتاجون لم يكن ينطوى على مثل هذا الهدف الرمزى وحده ، لأن الصدمة الطائرة ، اختارت أن تدمر على وجه التخصيص والتحديد ، جزءا منه يتركز فيه مركز القيادة والسيطرة ، وعمليات الحاسب الآلى ، والمخابرات للقوات المسلحة العاملة فى أمريكا وفيما وراء البحار ، أى أنها اختارت أن تدمر مركز الجهاز العصبى للجيش الأمريكى ، وهو ما أدى فعليا إلى حالة تشبه الشلل الميدانى العام ، ريثما تم افتتاح مركز قيادة تبادلى بديل.
وتحت تأثير هذه الصدمة يمكن تفسير حالة الفزع والارتباك ، التى سادت الولايات المتحدة الأمريكية ، والتى وصلت فى لحظة العودة إلى الوعى إلى إخلاء 800 مبنى حكومى ، ونشر 372 كتيبة شرطة ، ولواء حرس وطنى يتكون من 3000 جندى ، فى مدينة نيويورك وحدها .
رابعا : لقد ترتب على الاعتماد الكامل للولايات المتحدة على تكنولوجيا التجسس الإلكترونى ، بالأقمار الصناعية وقرون الاستشعار عن بعد ، ضمور شديد فى التجسس وأعمال المخابرات ، اعتمادا على الوسائل التقليدية .
والحقيقة أن الولايات المتحدة ظلت مبهورة ، بأن أقمارها الصناعية ، تستطيع أن تلتقط من الفضاء أرقام سيارة ، تعبر فوق أحد الجسور فى الشرق الأوسط ، ولم تتعلم من الدرس ، بعد حادث النسف المتزامن لسفارتيها فى إفريقيا .
لقد كان واحد من أهم خبراء المخابرات الفرنسية هو الذى استخلص الدروس من حادث تفجير السفارتين الأمريكيتين ، وكان أهم هذه الدروس هو فشل تكنولوجيا التجسس ، وأدوات الاستشعار عن بعد ، فى رصد مصادر التهديد ونمو المخاطر ، وهو درس يفرض على حد تعبيره ، العودة إلى الاعتماد على الحواس البشرية المباشرة ، أو وسائط التجسس التقليدية ، لماذا؟ لأنه كلما تقدمت وتعقدت تكنولوجيا التجسس ، أصبح تضليلها والتمويه عليها أكثر سهولة ، على شاكلة درس الهند ، فى إخفاء تفجيرها النووى الأخير ، حيث لجأت إلى وسائل إخفاء وتمويه بالغة البساطة ، لتعمية أقمار التجسس الأمريكية ، وأثبتت نجاحها فى ذلك على نحو عملى .
وهكذا فإن بروز الاعتماد على أجهزة التجسس الإلكترونية ، وقرون الاستشعار عن بعد ، قد أدى بدوره إلى تطوير تكنولوجيا بسيطة وفعالة للتمويه والتضليل والإخفاء ، وبالاعتماد المباشر على العنصر البشرى ، وقد أثبتت نجاحها بدورها .