كتاب " العين الغائبة - الجبرتي والحملة الفرنسية عى مصر" ، تأليف عمر جاسم محمد ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب العين الغائبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العين الغائبة
ولا يكاد القارئ ينتهي من قراءة الكتاب حتى يخرج بحصيلة مهمة وخطيرة عن قيمة الكتابة التاريخية في حياة الأمم. ويظهر له كم كان الجبرتي مغبونا إذا جرى إهمال كتاباته الريادية في مجال التاريخ والتي كانت ستعطي ثمارا يانعة وتجربة رائعة فيما لو جرى تحليلها بشجاعة على مستوى حضاري ونفسي وبشجاعة تجعل مواجهة الذات أمرا حتميا كي يتعرف على أحواله التي صنعت أوضاعه. ولا سيما القراءة السيسولوجية للمجتمع المصري انذاك وعوامل قوته وضعفه التي تأثرت بدورها بعوامل ومؤثرات رسبتها احقاب التاريخ.
والخلاصة يكشف الكتاب عن مواقف وآراء الكاتب بالقيمة التاريخية لكتابات الجبرتي وفي الوقت ذاته يشير الى قضايا وأمور مهمة تتعلق بمصائر الشعوب ومواقفها وعوامل حراكها وعطلها حين تتعرض لمثل تلك التحديات والأوضاع.
من هنا كانت التساؤلات حول الحملة الفرنسية على مصر مثار تحليل و بحث طويلين لأهمية هذه الحملة التلاقي في الشرق و الغرب، وليس هذا فحسب، بل لفهم صورة ذلك الغرب الذي ظل طويلا غائب عن الفهم الشرقي بكليته، فجاء البحث فيما كتبه المؤرخ المصري الازهري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه عجائب الاثار في التراجم و الاخبار، وتتطلب الامر بحثا و جهدا مضنين للوصول الى نتائج وإجابات للأسئلة .
لذا كان سعينا من خلال دراسة المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الاول للحملة الفرنسية على مصر الى ادراك ماهية الاحتلال من خلال مؤرخ عربي - مسلم، من طبقة العلماء، والذي كتب بطريقة تختلف كليا عما كتبه الاخرون عن الاحتلال، فكانت لديه اليات جد خاصة في رصد الفرنسيين و التدوين لتلك الحقبة، وقد مثل وجهة نظر النخبة المثقفة في مصر، وليس فقط دراسة الحملة الفرنسية بوصفها احتلال و قوة استعمارية فرضت هيمنتها على مصر، بل بما حملته معها من ادوات حضارية، تلك الادوات التي جعلت صورة الاخر الغربي صعبة المنال، فهو بين الباعث الجديد للنمو و الازدهار، وبين المدمر القاتل الذي يغتصب ارضا رغما عن اهلها . تلك الازدواجية التي تميزت بها الحملة الفرنسية، والتي جعلت من نظرة المؤرخ الجبرتي تمتاز تحتمل التناقضات الكثيرة .
وبرغم ما كتب عن الحملة الفرنسية الا ان الحدث في حد ذاته مازال يثير اشكاليات كثيرة، متعددة و متجددة، وثمة سمة اخرى تُطّبع بها تلك الغزوة الاستعمارية، وهي ان الافكار و النظريات التي انتجت في تفسيرها، تفوق، في واقع الامر، ماتم اختباره ودراسته على مستوى الوقائع التاريخية المشكلة لمضمون الحدث ككل، واذا كان ذلك يتسبب في خلق صعوبات جمة لكل من يتصدى لدراسة الحملة الفرنسية ويتحرى عدم الانسياق وراء تلك الافكار و الاطر النظرية، الا انه يجب الاعتراف بان الانتاج الفكري و النظري قد أثر بشكل كبير على تفسير الحملة و ما تبعها.
ان المجال يظل باستمرار مفتوحا للعديد من الدراسات، لاسيما وان الارشيفات الفرنسية تحظى بدرجة كبيرة من الثراء في المعلومات التي ربما لم تتوافر، بهذا الزخم غير العادي لغيره من الاحداث المناظرة له، فضلا عن الببليوجرافيا المطولة التي ترصد اكثر من 363 شهادة تاريخية للمشاركين من الضباط و الجنود وحتى المدنيين الذين شاركوا في الاحداث او اولئك الذين كانوا شهودا عليها، ان فحص هذه الاصول الوثائقية والمصادر المتعددة باستخدام ادوات منهجية ومعرفية ككل دون القفز الى الاستنتاجات-انما يسمح باستكشاف زوايا جديدة في الصورة التي تم تكوينها عن الحملة حتى لو ادى ذلك الى نقد العديد من النتائج الراهنة التي تحظى منذ فترة بعيدة بالأهمية و الاعتراف.
و الحقيقة، ان الجانب الاكثر اهمية لفهم الحملة الفرنسية، لا ينبع من الاثار الوثائقية للحملة الفرنسية، فوجهة النظر الفرنسية معروفة نتيجة لذلك الزخم الوثائقي رغم تعدد التفسيرات، ولكن وجهة النظر الاكثر اهمية بالنسبة لنا، هي الوثائق التي رصدت الحملة الفرنسية و التي تمثلت بكتاب عجائب الاثار للجبرتي، و الحال ان شخصيته وهو شاهد مباشر و فاعل في الاحداث، قد جعلت من كتابه المصدر الذي لا بديل له [والذي يكاد يكون الوحيد غالبا في واقع الامر] للتعرف على الجوانب العملية للحملة.
وقد اعتمدنا منهجا اكثر عمقا لفهم النصوص التي تركها الجبرتي، بدءا بشخصية الجبرتي و تكوينه الفكري و الاجتماعي، وارتباط الموروث الديني و الاجتماعي في تكوين الرؤى و صياغة شخصية الاخر من منظوره باستناده الى تراكمية معرفية واثر ذلك في دمج التحليلات النقدية التي اخرجت الفرنسيين و المصريين على حد سواء في كتابه .
لقد كنا على مقربة جد بالغة من النص، متعاملين مع النص بتشريحه وتحليله وفق الأحداث ووفق ارتباطه بمراحل تاريخية سابقة، فغالبا ما وضع الجبرتي نصوصه بطريقة اختلفت كليا عمن سبقه، فهو يضع نصا يريد منه التدليل على الكثير من الاحداث مستخدما طريقة تجعل من النص متشعبا رغم بساطة بنيته .
كما حاولنا اثبات رؤى الجبرتي و تصوراته من خلال ربطنا النص بالقوى المسيطرة في وقت كتابة النص لاسيما بعد ان استطعنا ان نثبت الفترة التي كتب بها الجبرتي عجائبه، فآراءه واثبات تاريخها اقترن بتصوراته وطريقة طرحه للحدث تأييدا كان ام مضادا .
ان الجبرتي مثل رؤية خاصة في عملية الاستغراب و النظرة الى الاخر، فتجاوز النظر الى المحتلين على انهم محتلين، رغم انه لم ينسى ذلك، ولكن في الوقت ذاته استطاع ان يكون رؤيته عن الفرنسيين بطريقة جد حيادية و منصفة، وكان الجبرتي يعقد المقارنات و المقاربات الذهنية بين الفرنسيين و بين ما قد عاشه من انظمة، وهي نظام المماليك و العثمانيون، الذين اعتبرهم بعيدين جدا عن العدل و الحرية التي كان ينشدها الجبرتي، ولقد امتلك الجبرتي عقلية متفتحة و متقدة في عملية رصده للفرنسيين و العثمانيين على حد سواء .