كتاب " العين الغائبة - الجبرتي والحملة الفرنسية عى مصر" ، تأليف عمر جاسم محمد ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب العين الغائبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العين الغائبة
و لا تزال صورة النبي في ذهنية الغرب -رغم تغيرها- تلك الشخصية شخصية الافاق و الكذاب، ولكن بدلا من ان تكون للشخص قليل الذكاء، والغشاش الذي كان يقدم فيما قبل، اصبح الامر يتعلق الان بعقلية راقية، تتبع خطة معدة سلفا، تهدف الى تحول جذري لضمان سيطرة العرب على العالم، ومزج الديانات فيما بينها،انها شخصية مستعدة لبلوغ غاياتها واستخدام كل الوسائل الممكنة، فهو فوق كل القواعد الاخيلة -بوجهة نظرهم- وقد اصبح جذابا وساحرا، ولكن ظل في الوقت ذاته "شيطانيا" والحق ان هذه الاسطورة الغربية عن النبي عليه الصلاة والسلام، تم بصورة خاصة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتحول الى شبح يلح على الضمير الغربي و العبقرية التي تعلو على كل الاخلاق(14).وهناك جانب خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام كان يجذب الانتباه و يثير الاعجاب بمواهبه "كمشرع"(15) ففي ذلك الوقت كانت الثورة الفرنسية على وشك الاندلاع و كانت اوربا تبحث عن سبل سياسية واجتماعية جديدة للسماح للشعوب الوصول بصورة جماعية الى " العصور الحديثة " واقتبس المفكرون و فلاسفة عصر التنوير من مثل هذه الامثلة التاريخية، وكذلك الحال بالنسبة للعملية التي تثبت ان الشعوب القاهرة تنتهي على الاغلب بان يقهرها من قهرته، مثلما حدث بالنسبة للغزوات الالمانية في اوربا و المغولية في ديار الاسلام(16).
و قدر تعلق الامر بالاثر الذي تركته كتابات فولتير (17) على نابليون، فرغم ان فولتير قد اشار الى ان العرب الذين لم يريدوا من العلوم سوى القرآن، فقد حاولو اظهار ان عبقريتهم تمتد الى كل المجالات، ولكن نابليون فهمها على استكناه لمخيلة العرب المهيمنين ببناء الحضارة ونشر العلوم و المعارف وجعل ذلك وسيلة للوصول الى الاهداف المرجوة، وبقيادته لجيش من العلماء - فيما بعد - حاول نابليون عبثا تقليد شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الشخصية التي رسمها فولتير، وهنا فان عربي الغزوات الاولى و العرب"الغازين" يتصرفون وكانهم بناة امبراطوريات اوربيون، فبعد الغزو مباشرة تحين مرحلة الاستغلال التي تقوم اساسا على انشاء بنية تحتية للنقل، وان عربي الغزوات الاولى يشبه في سمات كثيرة الاوربي الغازي، وهذا التماثل لا يقتصر فقط على الممارسة العلمية فحسب، بل ايضا على البحث العلمي، تلك هي الطريقة التي فهم فيها نابليون ما كتبه فولتير (18).
و في الواقع سيطر مفهوم " الاستبداد المستنير الشرقي " خلال القرن الثامن عشر على كتابات مونتسكيو(19) وارائه منذ نشره في عام 1748 م لمؤلفه (روح القوانين)، ورغم تلك الكتابات عن محمدعليه الصلاة والسلام فان كتابات فولتير هي التي اثارت ولع القراء، واثرت عليهم، ومرد ذلك الى ان شهرة المؤلف وتعدد اصداراته هي التي روجّت "الاعمال عن محمد" حتى وان لم تكن مطابقة للصورة الجديدة عن الاسلام ورسوله، وفي الوقع يتحدث فولتير عن الرسول كما لو كان يتحدث عن شخصية ميكافيللية - وهي شخصية نابليون فيما بعد -، وهناك كاتبان لا يقلان اهمية عن فولتير، انطلقا من مفهومه ذلك، وجعلا من "محمد" وديانته قوتهما الضاربة، واكتسبا بفضله شهرة واسعة، هما سافاري Savary، و فولني Volney ، ويعكس كلاهما تناقضات صورة فولتير، وقد لعبا دورا حاسما في نقل المساجلة الفلسفية الخالصة نحو تنفيذمشروع غزو مصر (20).وهكذا فان اعجاب نابليون بمحمدعليه الصلاة والسلام نشأ اساسا من تأثير كتابات فولتير و فولني وسافاري كما سيمر بنا.
كانت لجميع المشاريع الاستشراقية قبل نابليون خصيصة مميزة هي أنه لم يكن ثمة إلا القليل مما يمكن القيام به مسبقا من أجل نجاح المشروع،فلقد تعلم السابقون ما تعلموه حول الشرق بعد أن وصلوا إليه،وكانوا يجابهون الشرق بأكمله،ولم يستطيعوا إلا بعد زمن،وبعد درجة عالية من الارتجال،أن يشذبوا الشرق إلى إقليم أصغر،لكن نابليون بالمقابل،لم يكن يهدف إلى ما هو أقل من أخذ مصر بأكملها،وكانت تجهيزاته السابقة للحملة ضخمة ومحكمة بصورة لا مثيل لها،،ورغم ذلك،فقد كانت التجهيزات خططية إلى درجة التعصب مبنية على تخطيط متقن وكانت، نصية، اذ اعتمدت على موروث نصي كبير،ويبدو أن أشياء ثلاثة كانت،في بال نابليون وهو يعد العدة في ايطاليا عام 1797 لتحركه العسكري التالي.أولا،والى جانب قوة انكلترا التي كانت لاتزال تهدده،لم تترك له انتصاراته العسكرية،التي توجتها معاهدة كامبوفورميو(21)، مكانا آخر يتجه إليه لتحقيق مجد آخر عدا الشرق، و فضلا عن هذا فقد كان تاليران (22)،قبل ذلك بوقت قصير قد أشار إلى المزايا التي تجتنى من المستعمرات الجديدة في الظروف الحاضرة.وقد قاده هذا المفهوم،جنبا إلى جنب مع الاحتمال الجذاب لإيقاع الأذى ببريطانيا،باتجاه الشرق،ثانيا،كان نابليون قد انجذب إلى الشرق منذ صباه،وتحتوي مخطوطات شبابه،مثلا،على تلخيص قام به لكتاب مارينيي(تاريخ العرب)؛وجلي من كتاباته وأحاديثه انه كان مفعما،بالذكريات والأمجاد التي كانت قد ارتبطت بالاسكندر المقدوني بشكل عام،وبمصر بشكل خاص(23).
ومن ثم فان فكرة فتح مصر من جديد و كأنه اسكندر جديد،قد طرحت نفسها عليه،مدعمة الآن بالفائدة الإضافية المتمثلة في اكتساب مستعمرة إسلامية جديدة على حساب انكلترا.
ثالثا ، اعتبر نابليون مصر مشروعا ممكنا بالضبط لأنه عرف مصر تكتيكيا،واستراتيجيا،وتاريخيا،وكذلك نصّيا،وما يقصد به نصّيا هنا هو كون مصر شيئا قرأ المرء عنه وخبره عبر كتابات ثقات أوربيين محدثين وكلاسيكيين،وموضع الدلالة في هذا كله هو أن مصر بالنسبة لنابليون كانت مشروعا اكتسب وجودا حقيقيا في ذهنه،ثم في تجهيزاته لفتحها،من خلال تجارب تنتمي إلى مملكة الأفكار والأساطير المستنبطة من النصوص،لا من الواقع التجريبي،ولذلك صارت الخطط التي وضعها لمصر الأولى في سلسلة طويلة من المواجهات الأوربية مع الشرق سخِّرت فيها معرفة المستشرق الخابرة لأغراض استعمارية بصورة مباشرة،ذلك أنه في اللحظة الحاسمة التي كان فيها على المستشرق أن يقر ما إذا كان ولائه وتعاطفه مع الشرق أو مع الغرب الفاتح،اختار المستشرق الغرب دائما،منذ زمن نابليون وحتى اللحظة الحاضرة،أما فيما يخص نابليون نفسه فإنه رأى الشرق كما كان قد رُمِّز في البدء،أولا في النصوص الكلاسيكية ثم من قبل الخبراء الاستشراقيين الذين بدت رؤياهم مبنية على النصوص الكلاسيكية،بديلا مفيدا للمواجهة الفعلية مع الشرق الحقيقي(24).
وإدراج نابليون لعدد كبير من المختصين في حملته المصرية من الشهرة بحيث لا يتطلب تفصيلا،وكانت فكرته أن يؤسس نوعا من سجل حي للمحفوظات عن حملته،في صورة دراسات حول الموضوعات الممكنة،يقوم بها أعضاء معهد مصر الذي أنشأه،غير أن ما قد يكون أقل شهرة هو اعتماء نابليون السابق على الحملة على دراسات كونت دو فولني،وهو رحالة فرنسي نشر كتابه رحلة إلى مصر وسورية في مجلدين عام 1787،لقد رأى في فولني عالما مهمته دائما هي أن يسجل الحالة الوجودية للأشياء التي يراها،وكانت آراء فولني في الإسلام بوصفه دينا ونظاما من المؤسسات السياسية عدائية،عداء شرائعيا،ومع ذلك فقد وجد نابليون هذا العمل،وكتاب فولني الآخر((نظرات في الحرب الراهنة للأتراك 1788))ذوي أهمية خاصة،فقد كان فولني في الحساب الأخير،فرنسيا حكيما قد عاين الشرق الأدنى بوصفه مكانايحتمل أن تتحقق الطموحات الفرنسية الاستعمارية فيه،وكان ما أفاده نابليون من عمل فولني هو تعداد العقبات التي لابد أن تواجهها أي حملة فرنسية في الشرق،في سلم تصاعدي تبعا لدرجة الصعوبة(25).
و يشير نابليون صراحة في تأملاته الى فولني حول الحملة المصرية حين كان في جزيرة القديسة هيلانة قائلا: ان فولني رأى ان ثمة ثلاثة حواجز في وجه السيطرة الفرنسية في الشرق، وان اية قوة فرنسية لا بد ان تحارب - لذلك - ثلاثة حروب : الاولى ضد انكلترا، والثانية ضد الباب العالي العثماني، والثالثة وهي اكثرها صعوبة، ضد المسلمين، ولقد كان تقدير فولني تقدير داهية متمرس ويصعب جدا ان يخطئ، اذ كان واضحا لنابليون كما سيكون لكل من يقرأ فولني، ان رحلته ونظراته كانا نصين ناجعين لاستخدام اي اوربي يود ان يحظى بالنجاح في الشرق، وبكلمات اخرى، فقد شكل عمل فولني دليلا كتابيا لتخفيف حدة الصدمة الانسانية التي ربما شعر بها الاوربي لحظة تجربته المباشرة للشرق .
ويبدو ان اطروحة فولني كانت التالية : اقرأ الكتابين، وبدلا من ان تصاب بحس الخيبة بالشرق، فانك ستشد الشرق اليك (26).
لقد فهم نابليون فولني فهما حرفيا تقريبا، لكن بطريقة تميز بها من حيث الرهافة و اللطافة، ومنذ الظهور الاول لجيش فرنسا على الافق المصري، بذل نابليون ما في وسعه من جهد لاقناع المسلمين بـ(اننا نحن المسلمون الحقيقيون)، ومتسلحا بفريق من المستشرقين، جالسا في سفينة القيادة المسماة (الشرق) واستغل عداء المصريين للمماليك والجاذبية التي حملتها الفكرة الثورية الفرنسية عن تساوي الفرص امام الجميع، ليشن ضد الاسلام حربا فريدة في وقتها و انتقائها، وكان ما ترك اعمق الاثر في نفس الجبرتي، اعتماد نابليون على الباحثين ليديروا اتصالاته مع السكان المحليين، ولقد حاول نابليون في كل وقت ومكان ان يبرهن انه كان يحارب من اجل الاسلام، وقد ترجم ما قاله الى عربية قرآنية، تماما كما كان قواد الجيش الفرنسي قد حثوا جنودهم على تذكر الحساسية الاسلامية دائما(27).