كتاب " العين الغائبة - الجبرتي والحملة الفرنسية عى مصر" ، تأليف عمر جاسم محمد ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب العين الغائبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العين الغائبة
المبحث الاول
عبد الرحمن الجبرتي (1754-1825 م )
"دراسة نقدية في تكوينه المعرفي"
ان عملية فهم كينونة الجبرتي المعرفية، تنطلق من فهم و استيعاب شخصية والده الذي ترك اكير الاثر في تكوين شخصيته، اذ يمثل والده حلقة الوصل مع اسلاف الجبرتي،وهو المفتاح الذي جعل الجبرتـي مؤرخــا(41)،لاسيما وان الجبرتي يصف اباه بأنه"عمدة الانام و فيلسوف الاسلام"(42)، وربما تكون هذه مبالغة كبيرة من الجبرتي، لكن ما تركه الجبرتي من صفحات طويلة في ادراج المعارف التي كان يتقنها حسن الجبرتي، تجعل الامر مقبولا الى حد ما، فحسن الجبرتي لم يكن مجرد عالم فلكي، بل هو فقيه له سلسلة طويلة من الشيوخ ممن اخذ عنهم العلم، فضلا عن سلسلة من التلاميذ، وعلاقات جد كثيرة و متشعبة، وثمة علاقات متأصلة داخلية و خارجية، وليس ثمة علاقات اقل مما كانت عليه مع المماليك، خاصة منهم علي بك الكبير (1755-1774 م )، مما حدا به ان يكون عالما ذا سلطة و نفوذ و ثروة(43).
ينحدر حسن الجبرتي الذي ولد في (1110 هـ /1698م ) من اصول حبشية وتحديدا اقليم الجبرت في الحبشة (44)، حيث تركها جدهم السابع عبد الرحمن الجبرتي متجها الى مكة المكرمة، ثم انتقل الى القاهرة، فاستقر فيها وانظم الى الجامع الازهر، وأسس فيه رواق الجبرتية (45)،في (1 محرم 901هـ/1495م) (46)،وتزوج و انجب ولدا ورثه على الرواق، وتمتعت عائلة الجبرتي بشجرة مصاهرات كثيرة ومتشعبة مع عوائل ذات شأن سياسي وديني، وكانت في الغالب تابعة لسلطة المماليك(47). بالتالي تحولت جميع الاملاك و الاوقاف التي خلفها الجبرتية الى حسن الجبرتي و اصبح المالك الوحيد دون منازع على تلك الاموال و الثروات الطائلة (48).
ويبدو جليا ان الجد السابع لعائلة الجبرتي حين دخل مصر، والذي تنتهي معرفة المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي به (49)، كان حريصا على ان يصاهر عوائل ذات شأو ليضمن لنفسه منزلة اجتماعية مرموقة، لاسيما وانه اصبح شيخا على رواق الجبرتية، فكانت تلك المصاهرة هي الخطوة الجدية في دخول عائلة الجبرتي الى طبقة النخبة، وتطورت العائلة لاحقا في سلمها الاجتماعي لتتخذ شكلا اكثر قوة و نفوذا بعد المصاهرات مع عوائل تابعة لسلطة المماليك (50).
و ذلك يعني ان حسن الجبرتي قد عاش في بيئة اجتماعية انعكست فيها السلطتين الدينية و الدنيوية، مما جعل سلطة المعرفة ذات اثر اكبر، و امكن لحسن الجبرتي ان يوفر لنفسه مجالا حيويا قادرا على ان يعطيه قدرة على الفعل في المجتمع، مما انعكس بدوره ان يكون متعدد المواهب والصفات، قادرا على ان يتمتع برغد العيش دون الحاجة الى العمل الشاق الذي كان يمارسه معظم المصريين انذاك، وان يكون من نخبة النخبة (51).
واستطاع حسن الجبرتي ان يدخل في مجال رجال الدولة الذين كانت لهم كلمة ذات اثر بين العلماء وأرباب السلطة من كبار رجال الدولة، لدرجة وصل فيها اهتمامه انه لم يعرف احتياجات اهله وبيته الا بعد موت جدته (52)،و كان يتنقل بين البيوت و المساكن التي ورثها، ويمضي فيها اياما تبعا لحالته النفسية والمزاجية، هذا فضلا عن انه اشتغل بالتجارة، وعمل في السلطة بعد ان تزوج من بنت الامير المملوكي علي اغا باش متفرقة الذي كان يحكم قلاع الطور(53) و السويس(54) و المويلح(55) بالطوري، وبعد موته تقلد حسن الجبرتي منصبه فترة من الزمن، ثم تزوج من بيت مجد وثروة في بولاق، ولهم املاك وعقارات واوقاف، وقد كان حسن الجبرتي مولعا بالنساء، فقد تزوج كثيرا وكانت زوجته تقدم له الكثير من الجواري، ولعل ذلك عائد الى مدى الرفاهية التي كان يعيشها، او لعل زوجته كانت تخشاه كثيرا فتحصل على رضاه بتقديم الجواري له (56).
وذكر المستشرق الفرنسي بريس دافين ان حسن الجبرتي كان يملك الكثير من السراري و الجواري، حتى ان زوجته كان تقدم له عدد من الجواري كتعبير منها على احترامه، و يؤكد ذلك عبد الرحمن الجبرتي ويقول ان والده كانت له ثلاثة مساكن احدها بالقرب من الازهر، والاخر في الابزازية بشاطيء النيل، ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه، وفي كل منزل زوجة و جواري وخدم، فكان يتنقل مع اصحابه وتلامذته، وكان يقتني المماليك و العبيد و الجواري البيض و الحبوش و السود، ومات له من الاولاد ما يقارب الاربعون، ذكورا واناثا ماتوا كلهم دون البلوغ، ولم يعش منهم سوى عبد الرحمن الجبرتي (57).
وطبقا لم ذكرنا، يتبين لنا مدى الرفاهية التي عاشتها طبقة العلماء في مصر، اذ تمتعوا بمكانة اجتماعية تعدت مكانة رجال السلطة، ويدعمهم في ذلك العلاقات مع السلطة التي حرصوا على توطيدها، ليضمنوا بذلك ثبات مكانتهم و تطويرها، ولم يكن هذا الامر من الغرابة بمكان، فثمة مجتمع قائم على مكانة متميزة للعلماء في نفوس عامة المجتمع، ونتيجة لذلك سعت السلطة الى كسب مودة العلماء، خاصة وانهم ظلوا المنبر الدعائي الاول والاخير في المجتمع، كما ان نمو وتزايد عدد العائلات الارستقراطية العلمية داخل المجتمع القاهري ؛ أدى الى تزايد و تراكم الثروة و المكانة الاجتماعية للعديد من العائلات العلمية خاصة في ظل عدم مصادرة السلطة لثرواتهم، فقد كان العلماء محصنين ضد مصادرة اموالهم، مما ادى الى تأسيس طبقة نخبوية ارستقراطية ليس فقط في المجتمع المصري، بل ايضا طبقة داخل طبقة العلماء مثل عائلة الجبرتي(58).
ان ذلك يدفعنا الى الاعتقاد بان عائلة الجبرتي قد حرصت على تنمية الثروة من خلال المصاهرة مع العائلات المشهورة بالمجد والثروة، وكانت هذه المصاهرات منذ جدهم السابع الذي دخل مصر، وبلغ الامر ان عقد زواج احد اسلافه قد "حرر وسطر بالذهب و عليه لوحة مموهة بالذهب" (59)، مما يعني ان هذا الحرص كان احد الاسس التي استندت عليها العائلة في تكوين ثروتها والشهرة، لدعم مكانتهم الاجتماعية وتطويرها وربطها بالسلطة، ويرى الباحث ان ثمة نسبة كبيرة تتحملها طبقة العلماء في تكون الطبقات الاجتماعية، و ازدياد الطبقات بطردية، فيزداد الفقير فقرا، ويزداد الغني غنى، اذ دعم ذلك الحرص من العلماء على الحصول على مكانة مرفهة الى ان يتمتع من هم دونهم بالضرورة بتزايد نمو ثرواتهم، لان العلماء يعطون المبرر في ذلك، لاسيما رجال السلطة وعلمائها (60).
اما عن العلاقات التي كونها حسن الجبرتي، فقد ارتبط بقوة مع المماليك، فضلا عن قوة علاقته بأقرانه من العلماء، وكانت له عنده حظوة و مكانة كبيرة، حتى ان بعضهم وصفه انه صاحب اسرار لشخصيته القوية التي فرض بها احترامه على الاخرين (61)،وربطته علاقة مع الوالي العثماني احمد باشا (1749-1751 م )، وبلغ الامر ان الاخير لما طلب من حسن الجبرتي الحضور الى مجلسه وامر احدهم بتبليغه، قيل له يجب ان ترسل له مكاتبة بذلك لمكانته العالية، وكان يلتقي به يومين في الاسبوع (62)، ويبدو ان حسن الجبرتي لم يكن مجرد فقيه، فقد حفظ سمعة مصر كمركز للعلم في نظر الوالي احمد باشا،كما كانت لحسن الجبرتي مراسلات مع السلطان العثماني مصطفى الثالث (1757-1773 م ) (63)، الذي كان له اهتمام خاص في الرياضيات و التنجيم، و ارسل له كتبا من خزانته الخاصة (64)، فضلا عن علاقاته مع كبار رجال الدول في اسطنبول، و ارسل له حكام تونس و الجزائر كتبا من مكتباتهم الخاصة(65) .
و لم تكن علاقته مع المماليك بأقل منها مع العثمانيين، فاعتبر شخصا ذا حظوة لدى العثمانيين، عندما قرر علي بك الكبير(66) تقديم شكوى ضد حاكم سوريا عثمان بك العظم، واستخدام الشكوى كذريعة للهجوم على سوريا، فطلب من حسن الجبرتي ان يحرر رسالة و يرفعها الى الباب العالي لتأييده، لاعتقاده ان حسن الجبرتي سيلقى القبول لدى العثمانيين(67)، فاختار حسن الجبرتي اثنين من اصحابه و هم عبد الرحمن العريشي شيخ رواق الشوام في الازهر، ومحمد افندي البردلي (68).
كما ربطته علاقة متينة مع عثمان بك ذو الفقار المملوكي (1729-1776 م )، ورافقه الى مكة ثلاث مرات، وكتب له رسالة عن مناسك الحج، وقرأ عليه عدد من المصنفات منها مقامات الحريري(69)، وبلغت شهرة حسن الجبرتي ابعد من ذلك، فكان له طلاب اصبح قسم منهم علماء مشهورين، كما درس عنده عدد من الفرنسيين في عام 1746 م، وربما كانت معرفة عبد الرحمن الجبرتي بالفرنسيين بدأت منهم، و ربما كانوا من المستشرقين الذين رافقوا حملة نابليون، او انهم ارسلوا لجمع الاخبار عن مصر كجزء من التخطيط المسبق للحملةالفرنسية(70)، كما ان علاقاته تعدت الى اقاربه، فقد كان اثنين من ابناء خاله جلساء لعثمان بك ذو الفقار(71) .