You are here

قراءة كتاب العين الغائبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العين الغائبة

العين الغائبة

كتاب " العين الغائبة - الجبرتي والحملة الفرنسية عى مصر" ، تأليف عمر جاسم محمد ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار زهران
الصفحة رقم: 6

تمهيد

نـــــابـــليــــون و الجـبــــرتـــــــي

(اثر الموروث النصّي في تكوين صورة الآخر )

ان فهم الصيغة المتكاملة للحدث التاريخي الضخم بتراكماته الفكرية و النصّية، الذي اشتمل على موروثات نصية فائقة الضخامة من حيث تكوين الرؤية عن الاخر، و من اجل رسم صورة ذهنية دقيقة لذلك الحدث، لا بد من بداية تمهيدية، تقاس فيها صورتي الاطراف، طرف اسلامي ينتابه الشك فيما حوله، ويتطلع دائما الى التغيير، ويمتلك قابلية للتحليل المنطقي القائم على اسس نفسية تستند الى موروث فكري عاشه الجبرتي مع نفسه في معترك يتيح له الاستدلال المنطقي، اذ كان شخصية فاعلة في الحدث، وشاهد مباشر، اصبحت كتاباته المصدر الذي لا بديل له، رغم انه يطرح العديد من المشكلات، فهو ارستقراطي قاهري، واسع الثراء، ينتمي الى وسط العلماء ويرتبط عبر اواصر وثيقة بالفئة المملوكية المغلقة على نفسها، والتي كانت تحكم البلد، فهو يمتلك مفهوما جد شخصي لتاريخ بلاده، ورؤية جد خاصة للمجتمع الذي عاشه.

وقبل كل ما مضى، ينبغي علينا فهم الرؤية المستبقة للفرنسي حين دخوله مصر، ثم اليات التخيل، وكيف تكونت تلك الصورة و ماهي ابعادها، وماهي المرجعية الفكرية و المفاهيمية التي استندت عليها محفزات تلك الصورة الذهنية، ثم ماهي الموروثات النصية التي اعتمدت عليها تلك الاخيلة الفرنسية في تكوين الرؤى والصور عن الاخر الذي ظل مجهولا حتى دخول الحملة الفرنسية الى مصر عام 1798.

ولان الحدث يشتمل على قطبين اولهما الفرنسيين ونابليون، و ثمة قابلية هنا للتفريق بين الفرنسيين من حيث هم شعب، وبين نابليون من حيث هو صيغة للحدث التاريخي، لان نابليون وحده استند على موروث جد نفسي و تخيلي عن الشرق، وانبثقت منه احلامه ورغباته التي قادته للتطلع الى الشرق، وعقليته التي تكونت بصعوبة و تعقيد لا يضاهى، والقطب الاخر هو الجبرتي و مصر، وتماما ينطبق عليه ما انطبق على نابليون، فكانت له ادواته في تحديد زاوية الرؤية للفرنسي من منطلقاته هو، وكأنه يقارن ويناظر بين تخيلات فكرية عاشها هو، وتلك المخيلة التي تمتع بها، وامتاز بقدرته على وضع الصور ومن ثم تحريرها وتحليلها في مخيلته ليخرج بذهنيته عن الواقع الذي يعيشه بصيغة نصية، و من ثم قدرته على فهم الاحداث ثم انعكاساتها على واقعه، هنا فقط يمكن ان تتحدد الصورة وأبعادها الدقيقة، في ضوء حقيقة ان الجبرتي كان له دافع، مثلما كان لنابليون، وراء الرصد ولم يكن مجرد مدون للحدث، فقد انطلق تدوينه من رؤية فكرية و سياسية خاصة به .

وبدءا من هذا النص الغريب الذي كتبه ليبنتز(1) وقدمه الى لويس الرابع عشر، الذي يقول : " المؤكد ان مصر كانت السبب الذي ادى بالمسيحيين الى فقد الاراضي المقدسة، كما كانت المنقذ للمحمديين(2)، الذين لولا امتلاكهم لها لاختفوا من على وجه الارض". يبين هذا النص مدى تجذر الصورة الذهنية عن الشرق ببعدها الديني، واندماجها اندماجا كليا في البعد الديني، لدرجة تفسير كل ما هو اسلامي بـ (محمدي)، والحقيقة ان عملية التفريق تلك، جاءت نتيجة سوء الفهم الذي تولد عن عدم المعرفة بالشرق جيدا، وتكوين الاساطير والصور الخرافية عن الشرق وعن صعوبة اقتحامه لان فيه الوحوش التي لاتقهر، ومرد ذلك كله الى الكينونة الغربية في عدم معرفة الشرق، لكن في الوقت نفسه، يقدم ليبنتز صورة اكثر وضوحا وقسوة، اذ يقترح على الملك لويس الرابع عشر غزو مصر، ويقول " هذا هو اضخم مشروع يمكن تصوره و الاكثر سهولة في تنفيذه، وان مصر من بين جميع بقاع العالم هي الافضل موقعا من اجل السيطرة على الدنيا و على البحار" (3).

كانت فرنسا هي البلد الوحيد الذي اقام اعتبارا من عام 1535 م علاقات مع سليمان القانوني(4)، بينما كانت الامبراطورية العثمانية لاتزال تثير رعب القوى المسيحية الاخرى، ومنذ ابرام معاهدة الامتيازات الاجنبية (5) استعادت المعادلة (الغرب / الاسلام / مصر ) اهميتها مرة اخرى، كما لو كانت فرنسا -في رغبتها لنسيان ذكريات القديس لويس (6) المؤلمة- قد ارادت اقامة تبادلات تجارية ضخمة مع مصر، ولما كان مفتاح القدس موجود منذ فترة قصيرة في القاهرة، فقد اصبحت الاسكندرية وكالة تجارية اجنبية انبأت عن العمليات التجارية الكبرى المستقبلية، وبعد عصر الحجاج بدأ عصر القناصل و معهم مشروعات غزو جديدة، وسريعا ما تم الوكالات التجارية الفرنسية في الاسكندرية و رشيد، وتدريجيا التفت الجاليات الغربية الصغيرة العدد حول فرنسا في البداية ثم فتحت القنصليات الخاصة بها بعد ذلك، وتمثل الدور الرئيسي لهذه القنصليات في حماية رعاياها والحفاظ على تجارتهم، وكان من البديهي ان يتوافر في العاملين بها صفات التجار قبل خضوعهم للقواعد والتقاليد الدبلوماسية التي تحدهم في دور القناصل(7) .

ومصر مركز القارة القديمة(افريقيا)، ولا يقدم هذا البلد سوى الذكريات العظيمة، فهي ارض الفنون و المعارف، وموطيء لاقدام عمالقة الفكر والفلسفة و السياسة، وصروحها الحضارية قد شيدت في زمن كانت فيه اوريا تخوض حروبا بربرية، في حين كانت مصر تتمتع -لزمن طويل- بالسيادة التجارية فاصبحت محط انظار واهتمام الامراء العظام الذين يتحكمون بمصائر الامم، ولم يحدث مرة ان امة من الامم حشدت لنفسها قوة ذات شأو في الغرب او في اسيا، دون ان تقودها هذه القوة باتجاه مصر، التي اعتبرتها هذه القوى بوجه من الوجوه نصيبها الطبيعي (8).

و لاجل فهم الموروث النصي الذي نتج عن المشاهدات العينية التي تركت - فيما بعد - اثرا واضحا في تكّون الصورة في الاخيلة الفرنسية، تلك الموروثات التي ظلت و ما تزال صورة نمطية-رغم الاندماج الحضاري- يشوبها الكثير من الغموض، لا سيما تلك التي كانت تنطلق من ايدولوجيا مستبقة تنبعث منها جذور العلاقات بين كل ماهو مسلم و مسيحي، ومن اجل تجاوز هذا الصراع القديم، سنتعامل معه من حيث هو موروث تاريخي نصي، ثم اثره على تصورات الفرنسيين تجاه مصر.

شهد القرن السادس عشر اتصالات اوربية جديدة بالشرق، بعد القطيعة التي حصلت اثر انتهاء الحروب الصليبية، في محاولة لدراسته واستكناه بواطنه، وكانت اولى تلك المحاولات هي المطبعة العربية التي امر البابا جوليوس الثاني بتأسيسها في ايطاليا، ونشرت اول كتاب باللغة العربية عام 1514م، وفي القرن ذاته ظهرت اولى الكتابات الهامة عن مصر باللغة الفرنسية سجلها الرحالة الفرنسيون الذين زاروا مصر خلال هذه الفترة، وتم تداول هذه الكتابات من قصر الى قصر، وبقي البعض منها مخطوطا حتى تم طبعه، و تمثل هذه الكتابات وثائقتاريخية مهمة لاثرها في تكون الصورة النمطية عن الشرق، وقد اعتبر الفرنسيون ان اكتشاف مصر و الشرق مغامرة محببة اليهم، لان الشرق كان بعيدا عنهم بعد النجوم كما صورته بعض الكتابات الاوربية (9).

وتميزت الرحلات الاستكشافية للرحالة الفرنسيين الذين زاروا مصر في القرن السادس عشر، بانها كانت تظم في معظمها رجال الدين الذين حرصوا عل تأدية فريضة الحج الى بلاد الشام(القدس)، فضلا عن زيارة الاماكن المقدسة المسيحية في مصر. يضاف الى ذلك انهم قد كلفوا بمهام سياسية، كنقل الرسائل من القادة الاوربيون الى الدولة العثمانية، او التجسس او غيرها، وكان البعض منهم عالما طبيعيا والجغرافي والشاعر و الاديب، وقد زار هؤلاء مصر ابتداء من عهد لويس الثاني عشر حتى هنري الثالث ورحلاتهم جميعا تمت بعد ان اصبحت مصر ولاية عثمانية عام 1517م (10) .

و في عام 1769 م، وهو العام الذي ولد فيه نابليون بونابرت، حدث تحول وانتقال من الشعور بالتهديد التركي على الغرب المسيحي الذي يرجع الى ثلاثة قرون، الى ولع بحضارة الاسلام، وظهر الاهتمام بشخصية النبي عليه الصلاة والسلام، فدفع فولتير (11)، كل مفكري عصره في هذا الامر بدورهم .

وقد تحولت صورة النبي عليه الصلاة والسلام تحولا كبيرا بعد دراسة المستشرقين لها وتفسيرها وتعميمها، فلم يعد بعد هذا((الافاق))و((الكذاب)) (12)، الذي وصفه منظروا و مصنفوا نخب العصور الوسطى، وانتهت تلك الصورة التي جاء بها، اذا انه تحول من رجل ليس معه الا القليل الى نشر دين عظيم و بناء امبراطورية عظيمة(13).

Pages