كتاب " جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟
قراءة كتاب جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ومن خلال هذا الزعم من قبل روسو، يتضح أنه يحمل عنصرية إلى جانب تمركزه. عنصرية توحي بتمركز حول أفضلية الجنس الأوروبي التي جعلت منه جنسا متقدما، متمدنا، ومتشبعا بالحداثة والحضارة ما خوله أن يكون معلما للشعوب الأخرى المحتكة به. كما غدا يبين أن الكتابة تشكل خطرا على الكلام وتحجره وتقيده «وتخضعه لنظام صارم يقصي احتمالات التنوع الدلالي الذي يفرضه سياق الكلام، وحال المتكلم، وكل هذه السمات الحيوية ستقوم الكتابة بطمسها، وإقصائها، ولا يظل من الكلام إلا جانبه الأقل أهمية... إن الكتابة هنا تمارس قهرا بحق غزارة الكلام، وتدفقاته الذاتية، ونبراته المعبرة» (42). وعلى هذا الإقصاء الذي شهدته الكتابة من قبل روسو استخدمه «دريدا دليلا على أن روسو مازال ممثلا للطرح الأفلاطوني، باعتبار أن الكتابة سياق غريب يقتحم، ويسبب ضررا بالغا لسياق وجد أصلا للتعبير عن الحقيقة، وهو الكلام» (43).
وبهذا فإن تفكيك دريدا لروسو يكشف امتداد أفكاره لسابقه أفلاطون، ويبين مدى إقحامه للكتابة، والنزول بها إلى درجة ثانية بعد الكلام.
ثالثا: مع دو سوسير
تماما كما فعل دريدا مع أفلاطون وروسو، فكك أعمال دو سوسير ليكشف تمركزه حول الصوت، وإقحامه للكتابة مع إعطائه الأولوية التامة للكلام/النطق. بحيث نجد دو سوسير يذهب فعلا إلى التمييز بين نظامين متباينين من أنظمة الدلائل وهما اللغة والكتابة حيث قدم الكلام على الكتابة، وأولاه أولوية مطلقة لأن «الغرض الألسني لا يتحدد بتنسيق الترابط بين الكلمة المكتوبة، والأخرى المنطوقة، وهذه الأخيرة تشكل وحدها هذا الغرض» (44) وبقول دو سوسير هذا يتضح البعد الرئيس والكبير الذي يعتمد عليه الغرض الألسني في تحديد مساره. كما يسعى دو سوسير إلى توسيع الهوة بين الكلام والكتابة حيث يبين أن «الكلمة المكتوبة لتمتزج بالكلمة المنطوقة -التي هي صورتها- بشكل حميم حتى إنها تسلب منها الدور الرئيسي. إن كل ذلك يسوقنا إلى أن نولي تمثيل العلامة الصوتية أهمية مساوية إن لم تكن أكثر مما توليه العلامة ذاتها» (45).
وعليه سعى دو سوسير إلى توسيع الشرخ الحادث بين الكلام والكتابة بتقديم الكلام، وإعطائه أولوية على حساب الكتابة. شأنه في ذلك شأن سابقيه أفلاطون وروسو. بل إن دو سوسير قد تعداهما إلى اقتراح منهج يرفض دراسة أي شكل من أشكال الكتابة ما لم تكن منطوقة صيتة. ليثبت دريدا بذلك أن دو سوسير قد عمل هو الآخر على التمركز حول الصوت حين أهمل الكتابة، وركز على الأشكال المنطوقة فقط جاعلا من الكتابة «وسيلة لتمثيل الكلام، وسيلة تقنية، واسطة خارجية، ولهذا فلا حاجة لأخذها بنظر الاعتبار عند دراسة اللغة، وقد تبدو هذه واسطة غير مباشرة لتمثيل المعاني في أصوات» (46). ويبين دريدا خلاصة مشروعه التفكيكي في:
1. «أن دو سوسير في نظريته عن علم اللغة إنما يحط من قدر الكتابة ويقلل من منزلتها بصورة منظمة.
2. أن هذه الإستراتيجية التي يتبعها سوسير إنما تلاقي وعلى غير توقع تلك التناقضات المكتوبة المتطورة.
3. أن المرء عندما يسير وراء مثل هذه التناقضات فإنه يترك مجال علم اللغة إلى مجال علم القواعد أو إن شئت فقل علم الكتابة وفنية النص بصورة عامة» (47).
وانطلاقاً مما تبين؛ نجد دريدا يوضح في نقده للتمركز حول الصوت، أن الفكر الغربي عموماً أسس علاقة غير متكافئة بين الكلام، والكتابة، علاقة محكومة بالعنف. سُلط على الكتابة بإقصائها وجعلها ذيلا تابعا للكلام.
كما أن دريدا نقد التمركز حول العقل باسم الـ: "Logocentrism" فقد اجترح مصطلحا آخر فكك باسمه التمركز حول الصوت وهو الـ: "الغراماتولوجيا" أو ما يعرف بعلم النحوية. وقد أسس له في كتاب أصدره بفرنسا عام 1967 عنونه بـ: ( De la grammatologie) من خلاله رفض الإيمان المطلق بأن الكتابة تابعة للكلام، ومكملة له، ذلك الطرح الذي ولدته الميتافيزيقا. وذهب إلى أنها موازية، بل سابقة له. وبهذا تتجاوز حالتها القديمة، من كونها حدثا ثانويا يأتي بعد النطق، وليس له من وظيفة إلا أن يدل على النطق، ويحيل عليه. وبذلك تسبق الكتابة اللغة وتكون اللغة نفسها توالدا ينتج عن النص المكتوب. وتظهر بذلك الكتابة في محاورة مع اللغة سابقة ومتجاوزة لها. ومن ثمة فهي تستوعب اللغة فتأتي كخلفية لها بدلا من كونها إفصاحا ثانويا متأخرا. والكتابة إذاً ليست وعاءً لشحن وحدات معدة سلفا وإنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات وابتكارها. وعلى إثر هذا التفكيك الذي أجراه دريدا يتبين لنا نوعان من الكتابة:
1 أولا: نوع يتكئ على مرجعية ميتافيزيقية تعتمد على التمركز المنطقي "Logocentrism" وتسمى الكلمة كأداة صوتية/أبجدية خطية. وهدفها توصيل الكلمة المنطوقة.
1 ثانيا: كتابة تعتمد على النحوية أو كتابة ما بعد البنيوية، وهي ما يؤسس العملية الأولية التي تنتج اللغة (48) و«الكتابة هنا تقف ضد النطق، وتمثل عدمية الصوت. وليس للكينونة عندئذ إلا أن تتولد من الكتابة، وهي حالة الولوج إلى لغة الاختلاف، والانبثاق من الصمت. أو لنقل إنها انفجار السكون» (49). وعليه؛ نجد دريدا قد سعى إلى تحطيم النزعة العنصرية المسلطة ضد الكتابة والتأسيس لنظرة جديدة تعيد إليها مكانتها ورونقها.
وكخلاصة لما قدمه دريدا في مشروعه التفكيكي من خلال مقولتي التمركز حول العقل والتمركز حول الصوت نجده يؤسس مبدئيا للاختلاف؛ بحيث «بدأ مشروع دريدا النقدي ضد المركزية من دعوة للاختلاف لأنه وجد أن الفكر الغربي يقول دائما بالمماثلة، ثم كشف أن المماثلة، إنما هي من نتاج الميتافيزيقا التي أقصت كل شيء إلا ما يتصل بالعقل» (50) إذ يثبت أن السلطة والهيمنة قد استأثرت بهما الميتافيزيقا وجعلت كل فكر وفلسفة خاضعين لها بناء على دعوتها إلى المماثلة والمشابهة بين الدلائل فتمركزت الرؤى، والتصورات حول هذه الركيزة -المفهوم- وحينما حفر دريدا في ظروف نشأة التمركز العقلي وطبيعته، وجد أن الأمر قد تم بناء على تمركز آخر هو التمركز حول الصوت والكلام. وهكذا بدت هذه الظواهر متشابكة، ومتداخلة، وكل واحدة منها تغذي غيرها بالقوة والصلابة. لهذا ثار على الموروثات ليبطل زعمها ويكشف هذا التمركز، ويبرهن على أنه غير صالح.
كما سعى إلى تأسيس معيار جديد وبديل عن ذلك الطرح «فجاء طرح مفهوم علم الكتابة ليمتص شحنة التمركز، من بين ثنايا تلك الظواهر. والدعوة إلى خطاب لا تمركز فيه، يكون سببا أو نتيجة لممارسة خالية من نزعة التمركز» (51). إذاً فهذا نقد دريدا للتمركز حول العقل، ونقده للتمركز حول الصوت، والثورة التي قادها، رافضا لتلك الموروثات القديمة، مع إعطائه لبدائل تؤسس لمنطلق جديد لمسار النقد يعتمد على مبدإ الاختلاف.