كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1- في فلسفة الثقافة: التحديدات المفقودة
الملاحظ أن الثقافة، سواء في الإغريقية أو اللاتينية أو العربية، لم يكن لها وجود كإسم ولكن كرسم. الثقافة في اللسان الغربـي (culture, Kultur) هي حديثة العهد، ظهرت بظهور العلوم الإنسانية ذاتها. ثم وجدت تنظيراً مكثّفاً وصارماً بنموّ العلوم الأنثروبولوجية والتاريخية وتطوّرها ابتداءً من القرن التاسع عشر. أمّا قبل ذلك، لم تكن الثقافة سوى مجموعة من المعارف في غاياتها العملية وليست النظرية، لأن الأبعاد النظرية كانت تختصّ بها الفلسفة. لأن من خاصية الثقافة في اشتقاقاتها العريقة أنها كانت ترتبط بالصناعة عند الإغريق، بالفلاحة في السياق اللاتيني، وبالحرب في التاريخ العربـي الإسلامي. وهذه الانتماءات تتطلّب الإيضاحات الضرورية والهادفة لفك شيفرتها والوقوف على ألغازها. لكن بالربط بين الفلسفة والثقافة، وهو ربط ضروري ينتمي إلى «لابدّية» الاضطلاع بهذه الروح الذكية، يمكن وصل النظري بالعملي، بل ويمكن جعل النظري كإقليم من قارّة العملي أو بصورة أخرى كجزيرة في اليمّ الفعلي. لأن العملي واسع ببحاره وبحوره ويطرأ النظري فيه كأرخبيل أو إيقاع. إن الثقافة هي هذا البحر الواسع الجامع الذي يشتمل في إحاطته على أرخبيل النظر والتفكير. من شأن الفلسفة أن تكون الأرضية الصلبة التي تترسّخ فيها المعالم النظرية والأعمدة المفهومية، لكن تخترقها السيول الثقافية والجداول الفنية، لأنها محاطة بالوُسع الحضاري والتوسّع الثقافي. الفلسفة هي امتداد للثقافة؛ فهي بالتالي صناعة كغيرها من الصنائع إلى جانب العلم والفن والدين: «تعوّدنا على فهم "الثقافة" كمجموعة من الأعمال التي يعبّر عنها المكتسب الروحي للحضارة. لهذا السبب ندرك الفلسفة كمجموعة من الأعمال الأدبية التي أنتجتها خلال تطوّرها. لكن هذه الوجهة في النظر هي تاريخية وتراجعية. ليست الأعمال سوى نتائج ميّتة. لا تكون الثقافة شيئاً حيّاً سوى عندما تشكّل ليس مجموعة من الأعمال الميّتة، ولكن الجهد لفكرٍ حيّ قصد استيعاب الأثار الماضية وجعلها وسائل لتطوّر جديد. إذا كانت الفلسفة هي شكل حي من أشكال الثقافة، ينبغي أن نبرز كيف لا تزال وسيلة في التربية وفي تطوير الإنسان»[3].
الفلسفة والثقافة هما حدان نفقه معنيهما. لكن بالجمع بينهما في صيغة "فلسفة الثقافة" نحصل على مركّب يتطلّب الكثير من الجهد والتجريد للوقوف على حقيقته. هذا شأن الكلمة "بارومتر" التي هي جهاز لقياس الضغط الجوي ومعدّل الحرارة، وكلمة "الرأي" كمجموعة من الأحكام التي نشكّلها حول موضوع معيّن. لكن بالجمع بينهما "بارومتر الرأي" فإننا ننقل الدلالة الحقيقية في قياس الضغط الجوي إلى الدلالة المجازية في قياس وجهات النظر في المجتمع بين الصعود والهبوط وهو ما تختص به معاهد سبر الآراء بشأن الاقتراعات الانتخابية أو بشأن أي موضوع يهم من قريب أو من بعيد الرأي العام. عندما نتحدّث عن "بارومتر الرأي" فإننا نماثل بين المجال الجوّي (atmosphère) والمجال العقلي أو "مجال النوس" (noosphère) و"النوس" في الإغريقية معناها "العقل" بالمعنى الكوني الواسع وليس بالمعنى الحصري لنشاط الذهن. ومقولة "نوسفير" ابتكرها فلادمير فرنادسكي (1863-1945) واستعملها بيير تيلار دو شاردان (1881-1955) في كتابه «الظاهرة الإنسانية». وتعني فكرة فرنادسكي ودو شاردان أن البشرية محاطة بطبقة "نوسية" شبيهة بالطبقة الحيوية أو الطبقة الجوية للمجال الأرضي تطوّرت عبر التاريخ لتتشابك وتتوسّع لتشكّل محيطاً من الفكر والوعي تغترف منه البشرية[4]. وتنتمي الآراء إلى هذه الطبقة الفوقية الشبيهة بالجو وبالتالي تتحوّل الخواطر وتسبح في هذا المجال، وتهبط وتصعد حسب معدّل الضغط. لقد أعطى دو شاردان لمقولة "نوسفير" قيمة نفسية وروحية أكثر تدعيماً وتطعيماً ليس الغرض الوقوف عندها مطوّلاً، لكن إذا استعرتُ هذه المقولة للحديث عن "بارومتر الرأي" فلتبيان أن المركّب بين مقياس الضغط وحالة الوعي تدل على شيء جديد وعلى قيمة نظرية مضافة أكثر مما يدلّ عليه "البارومتر" بمفرده أو "الرأي" لوحده.