كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2- بين الثقافة والفلسفة: مسرد الحُب ومسرب الحَب
في كتابه المدوّي «فلسفة أو بربرية»[6]، يجعل أوارد فيراري من الفلسفة "الكنـز المخفيّ" الذي يُحبّ أن يُعرَف، فصنعت المذاهب والأفكار وتجلّت عبرها لتعرفها وتعرف قدرها. أكتب هذه الجُملة محاكاةً لما أورده محي الدين ابن عربـي (1165-1240) في «الفتوحات المكية» باعتماده على خبر نبوي شهير: «كنتُ كنـزاً لم أُعرَف فأحببت أن أُعرَف فخلقتُ الخلق وتعرّفت إليهم فعرفوني»[7]. وفكرة الحُب (بضمّ الحاء) لا تنفصل لغوياً وعملياً عن فكرة الحَب (بفتح الحاء)، لأنهما تنتميان إلى الجذر الألسني نفسه، ولأنهما تدلاّن على تصوير تقني يقتضي أن الحُبّ الجامع بين كائنين يؤول إلى زرع الحَب لديمومة النوع البشري (مثلاً زرع النطفة في الرحم للحصول على الكائن البشري السويّ). كل حُب هو تشتيت مجازي أو فعلي لعناصر لا تنفك عن النمو والارتقاء وتصدر عنها ثمار. ينطبق هذا الأمر على الكائن الحيوي كما سأتوقف عند ذلك مع فكرة "البيلدونغ" الألمانية، وينطبق أيضاً على الكائن الثقافي الذي يدفعه حُب استظهار الملكات العقلية والمواهب الشخصية إلى تشتيت الابتكارات وتوزيعها ليكون له فيها توقيع وتوضيع، فتكتمل في الشكل وتتجسّد في الأسلوب أو الصيغة، فيدوم في الزمن وينتشر في المكان، كما هو الشأن مع اللوحات الفنية بأسماء الفنانين الذين صنعوها. كانت لهم بها علاقة "حُبّ" في تجسيد الموهبة وعلاقة "حَب" بتقسيم هذه الموهبة إلى ابتكارات وصنائع متفرّقة تنفرد الثقافة بالكشف عن قيمتها الجمالية أو العملية. وبالتالي فإن كل ثقافة هي بالتعريف الرغبة في استظهار عبقرية وتوزيعها زمانياً ومكانياً على أكبر عدد ممكن من النفوس الناطقة والعاقلة. والفلسفة هي إحدى هذه التجليّات الراغبة والمرغوب فيها. ممّا يعني أن الفلسفة والثقافة هما وجهان لعملة واحدة عبّر عنها أوارد فيراري بهذه الكلمات في خاتمة كتابه: «في نهاية هذا المطاف، نرجو أن نكون قد بيّنا أن الفلسفة، الثقافة الحقيقية، ليست شيئاً آخر سوى عمل اللوغوس، بمعنى بناء هوية الكوني والفردي تتيح تحقيق مجتمع أصيل وجدير بالثقة»[8].
فهو يعتبر الفلسفة بوصفها الثقافة الحقيقية، وهذا لا يبتعد عن مذهبـي في كون الفلسفة هي ثقافة بامتياز من حيث البحث عن مبدأ جامع للصنائع والابتكارات حيث تنتهي بقطف ثمار هذه الإبداعات بعدما حرّكتها الرغبة وإرادة المعرفة (الحُب) وجسّدتها الصناعة وإرادة القوّة (الحَب). وهذه الرغبة الثائرة من أجل التجسُّد والصناعة الراقية من أجل تحقيق هذا التجسيد هي ما يسمّيه كاتبنا «عمل اللوغوس» ويقصد به العقل الجامع (Vernunft)، العقال الحاجر والمانع، الذي يحجر الذات عن التشتت الذهني أو الهوس الهوياتي، وليس الإدراك القصدي (Verstand) في الإحاطة بالموضوعات والوضعيات. والاحتكام إلى الإدراك القصدي جعل الهوية، أيّاً كان شكلها الحضاري وينعت هنا أوروبا في حروبها التاريخية المدمّرة، تتّكئ على عمليات حسابية أو آلية تبعاً لمقولة تيودور أدورنو (1903-1969) وماكس هوركايمر (1895-1973) في حديثهما عن «العقل الذرائعي» الذي تخلّى عن الثقافة وولع بالتقنية في فبركة أحدث الوسائل اللاسلكية والحربية والتدميرية التي تتجلّى عبرها الهيمنة الإمبريالية. أمّا الفلسفة أو الثقافة فهي تستند إلى العقل بالمعنى الإغريقي العريق لمفهوم "اللوغوس" الذي يشتمل على قيم الحوار والتبادل في الأقوال والأفكار عبر المخاطبة والجدال والسجال، أي الأمر الذي يشكّل حقيقة الإنسان كحيوان ناطق بالمعنى الأرسطي. هذا هو الفرق بين العقل كما تحمله الفلسفة منذ مهد ظهورها، العقل المجادل، المفكّر، المشاكس، المندهش، الباحث، المستطلع، المستكشف، أي العقل "الناطق" بالحقائق الميتافيزيقية أو الجمالية أو الخُلُقية؛ وبين العقل كما تحمله التقنية منذ ظهورها الحديث بتطوّر العلم، وهو العقل الحسابـي، الذرائعي، التبريري، الإيديولوجي، اليقيني، السكوني، أي العقل "الصامت" الذي يكتفي بتطبيق المعطيات بشكل ميكانيكي وآلي ولا يفتح جبهات السؤال أو أقاليم النقد والمراجعة.