You are here

قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 9

3- فصول في الثقافة، فواصل في التجربة البشرية

إن معالجة الثقافة تقتضي الوقوف على المهارة اللغوية في الاشتقاق والغور في المنحوتات الألسنية ومقارنة التشكيلات الأسلوبية وهذا ما قمتُ به ابتداءً من القسم الأول، لأن فهم الثقافة مرهون بتفسير كيف ارتحل المفهوم عبر النصوص وكيف تمّ إلباسه حلّة جديدة حسب المواطن التي يحلّ فيها وكيف يفقد من رونقه حسب المواطن التي يرحل عنها. وبما أن الثقافة لم تكن موجودة كمنظومة مستقلّة، كان لا بدّ من إيجاد سمة غالبة كانت تعبّر عنها، لكن لم تكن تتفوّه بها. أقصد أن السمة المهيمنة في عصر من العصور كانت تعكس الثقافة ولكن لم تكن لها الأدوات اللغوية والمفهومية الكافية لتفكّر فيها كمقولة مستقلّة. فماهي السمات الغالبة التي كانت تعبّر عن الثقافة تلميحاً ولا تقولها تصريحاً؟ أخذتُ اللغات العريقة الثلاث وهي الإغريقية واللاتينية والعربية. أمّا اللاتينية، فإن الثقافة كانت ترتبط فيها بالزراعة؛ وكان التصوّر المجازي الغالب هو أن تهذيب النفس مثل فلاحة الأرض، ينبغي قلع الرذائل مثلما نقلع الأعشاب الضارّة وغرس الفضائل مثلما نغرس الشجيرات. فالاستعارة هي بليغة استعملها شيشرون (106-43 ق.م)، وسأعود إلى ذلك بالتفصيل. أمّا الإغريقية، فإن السمة الغالبة هي الصناعة: سواء تعلّق الأمر بصناعة الأدوات في تدبير المنـزل أو صناعة القوانين في تنظيم المجتمع، فإنها كانت العلامة البارزة في حياة الإغريق وقتئذ. لكن ما بال التأمّل الذي انفرد به الفلاسفة في عزوفهم عن الحياة اليومية الصاخبة لتكون من اختصاص العبيد، ولكي يتفرّغوا إلى النشاط العقلي والتأمّل الفلسفي؟ في حقيقة الأمر، كان التمييز بين النظري والعملي نتاج تقسيم في العمل بين الحرفيين أو اليدويين الذين يعتنون بفبركة الأشياء وتنظيم الحياة الاقتصادية للمدينة وبين الفلاسفة والخطباء الذين يعتنون بتعليم الأشخاص والبحث عن المبادئ المجرّدة التي تحكم، من وراء المظاهر، حركة الظواهر. الفاصل بين النظري والعملي هو في ذاته فبركة إنسانية لها قواعدها وتنظيمها. أمّا العربية، فإن السمة الغالبة هي الحذاقة بثقف الشيء أي الظفر به واقتنائه، وأكثر ما ترتبط هذه المقولة بالحرب، حَرفياً وعملياً. أما على مستوى الحرف، فإن مشتقات "الثقافة" هي في الغالب "حربية"، "صراعية" كما تقول أمّهات المعاجم والقواميس؛ وأمّا على الصعيد العملي، فإن كل أداء فعلي أو تصنيع يدوي يقتضي الحذاقة في إنجازه والتفنّن في فبركته.

والعلّة في ذلك أن كل ما له علاقة بالقوّة (أقصد الحرب، الهيمنة، التوسّع، السيطرة، الثقف...) له أيضاً علاقة بالعقل وبالتنظيم البارع والمتطوّر، الآلي منه والعسكري، في إدارة تجمّع بشري. فهل نتعجّب إذا كانت الاختراعات العلمية الأكثر تطوّراً وتقنيةً كانت لأغراض عسكرية وسريّة (التواصل اللاسلكي، الأنترنت، الحاسوب، إلخ) أكثر منها لأغراض اقتصادية وتسويقية؟ فقط مع تطوّر الاجتماع البشري وصيرورة الاقتصاد مرجعية بشرية في التجارة والتبادل، انتقلت الاختراعات من المنغلق العسكري إلى المنفتح الاقتصادي تحت وطأة العولمة. يفسّر هذا الأمر لماذا "الثقافة" في المنطوق العربـي لا يمكن فصلها عن القوّة التي تتطلّب الحذاقة في التعامل مع المعطيات الميدانية واستعمال الحيلة لثقف الخصم والفوز بالغنيمة. لكن تكمن هشاشة المسألة في أن العرب لم تستطع إحداث القطيعة المعرفية والتاريخية مع المقولة في نطاقها الكفاحي. لا تزال العرب تحمل أثقال المقولة على عاتقها فترى إلى الوجود رؤية "نـزاع" بالمعنى الذي يجب فيه الظفر بالعدو والتميّز عنه في كل الحالات والأحوال: في الرؤية والأداء والمظهر، أي الاختلاف عنه في الحقيقة والطريقة والسليقة، في المعيش والملبس والمسكن. ظلّت العرب لصيقة التصوّر الكلاسيكي حول "ثقافة" لها علاقة بالحرب والتميّز عن الآخر منذ النـزاعات الطاحنة في العصر الوسيط للثقف بالهيمنة والصراع حول الرمز والمقدّس (مثلاً الحرب بين صلاح الدين الأيوبـي وريتشارد الأوّل المدعوّ "قلب الأسد"). لم ترتقِ هذه الرؤية "النـزاعية" (نـزع الشيء الذي يقتضي القلع، الانتزاع، الاحتضار) إلى الرؤية "الكفاحية" التي تتطلّب السجال والجدال وكل القيم اللغوية في الحوار والعراك والقيم الفكرية في الحِجاج والبرهان.

جاءت كذلك الحاجة إلى التمييز بين الثقافة والحضارة بالاعتماد على الاشتقاق والارتحال المفهومي من عصر إلى آخر، تبعاً لغلبة الإطار الإيديولوجي أو التصوّر السياسي والاجتماعي العام. إذا كانت الثقافة والحضارة تشتركان في الانفصال عن الطبيعة، فإنهما تتميّزان حسب الذهنية الغالبة في العصر. مثلاً كانت الثقافة في القرن الثامن عشر تدل على "القيم الفردية" بكسب الفضائل وتطوير الملكات واستعمال العقل، لكن من جرّاء الصراع السياسي بين الأمم الأوروبية ابتداءً من القرن التاسع عشر، انتقلت الثقافة إلى "القيم الجماعية" لتدل على عبقرية الأمة ولتكون بمثابة المعيار الإيديولوجي في شحن الضمائر وتهييج الإرادات، دفاعاً عن الهوية. كذلك إذا كانت "الثقافة" خاصية ألمانية في الاعتزاز بالقيم الوطنية والخصوصية التراثية، فإن "الحضارة" كانت خاصية فرنسية في الاعتزاز بالقيم الكونية والفلسفة العالمية. بهذا المعنى، لم تكن الثقافة والحضارة مجرّد كلمتين في القاموس، بل كانتا في أتون التجارب التاريخية، تتلونان بها وتندمجان في رهاناتها. لهذا الغرض، جاء الفصل الثاني ليعالج الأطر التاريخية للمفهومين والدلالات المصاحبة لهذه الأطر والملابسات. لقد نبّه نصر محمد عارف إلى الغموض الذي وقع فيه المفكرون العرب عندما أقدموا على تعريب الكلمات الأوروبية: «هناك اضطراباً واضحاً في الفكر العربـي عند تعامله مع مفهومي Culture وCivilization، حيث قدم للمفهومين الأوربيين ثلاثة ألفاظ عربية هي "الثقافة" و"الحضارة" و"المدنية"، فمن ترجم Culture إلى ثقافة ترجم Civilization إلى حضارة، ومن ترجم Culture إلى حضارة ترجم Civilization إلى مدنية، وفي كل حالة يختلف تعريف المفهوم العربـي عن الآخر. ففي الحالة الأولى تكون الثقافة هي الجانب الفكري من الحياة الإنسانية، وتكون الحضارة هي الجانب المادي منها. وفي الحالة الثانية تكون الحضارة هي الجانب الفكري، وتكون المدنية هي الجانب المادي منها»[18].

بناءً على تصنيف نصر محمد عارف، أضع نفسي في الحالة الأولى التي تأخذ بالزوج ثقافة/حضارة، خلافاً لعبد الرحمن بدوي مثلاً الذي ينتمي إلى الحالة الثانية التي تأخذ بالزوج حضارة/مدنية، خصوصاً مع ترجمته لكتاب ألبرت شفيتسر «فلسفة الحضارة»، كما سأتوقف عند ذلك لاحقاً. آخذ بالزوج ثقافة/حضارة لأن المنطوق "ثقافة" لا بدّ منه في كل الأحوال[19]؛ بينما الزوج حضارة/مدنية هو في نظري رديف لا غير، يعود إلى العلة الاشتقاقية بين "الحَضَر" (تحضّر) و"المدينة" (تمدّن). وفي الخلاصة التي تتوجّ محاولته الجريئة، يكتب نصر محمد عارف ما يلي: «من خلال العرض السابق لمفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية، نلاحظ مدى ما حدث للبناء المفاهيمي العربـي المعاصر من تشويه وعدم تحديد وخلط للدلالات والمعاني، مما يفقد الكلمات والألفاظ ماهيتها ودورها كوسيلة للتواصل الفكري والحوار ونقل المعاني والدلالات، بحيث أدى تعدد مصادر التعريف بأي من هذه المفاهيم واختلاط الأصول والماهيات، أدى إلى نوع من حوار "الطرشان" في الجماعة العلمية العربية، حيث لم تعد الألفاظ بإزاء معاني محددة، وإنما يختلف المعنى والدلالة من ذهن إلى آخر، ومن ثم فإن أطراف الحوار لا يقفون على أرضية واحدة، وإنما كل منهم تقع على ذهنه ظلال للمفهوم مخالفة لتلك التي وقعت على ذهن الطرف الآخر، ومن ثم فلن يصلوا إلى اتفاق حقيقي، وهذا ما يُلاحَظ في واقعنا الثقافي من إعادة وتكرار مناقشة القضايا عينها بعد مضيّ قرن من الزمان [...] كل ذلك لعدم وضوح إطار المفاهيم المتداولة، وهذا الأمر يستلزم إعادة بحث وتنقية المنظومة المفاهيمية والمتداولة في إطار الجماعة العلمية العربية»[20

Pages