You are here

قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 8

ونماذج هذا العقل الفلسفي الجامع الذي يجعل التفكير في صُلب التجربة البشرية والحرية في قلب كل فعل وقرار هي عديدة ولعلّ أشهرها هو إيمانويل كانط الذي افتتح الحداثة بإقامة قطيعة بين العقل اللاهوتي والميتافيزيقي الهائم في التجريدات والمتعاليات والعقل النقدي والتجريبـي المرتبط بخصوصية الواقع المحايث والوضع الإنساني المباشر. فالعقل الجامع هو عقل رابط بين الانطباعات الحسية على مستوى نظرية المعرفة ورابط بين أنظمة التفكير والقرار على مستوى السلوك العملي، ويوجّه هذه "الحُزمة" من التصوّرات والأفعال نحو هدف بنائي وتنظيمي ويشترط الإرادة الحرّة في هذا التوجيه. فلا يمكن بناء منظومة عقلية توجّه التصوّرات والسلوكيات البشرية دون حرية هي لها بمثابة الجوهر المؤسس والدليل المرشد. ويكمن جوهر هذه الحرية في أن يوجّه الإنسان حياته حسب الحُكم الحصيف لعقله بدون إكراهات برّانية، أي بدون سيادة عليا تُملي عليه طريقة التفكير والسلوك كما يؤكّد على ذلك في رسالته الشهيرة «جواب على سؤال: ما هي الأنوار؟» (1784). وفي السنة نفسها أصدر كانط رسالته الأخرى «فكرة التاريخ العالمي من وجهة نظر كوسوبوليتية» (1784) يتساءل فيها عن جدوى الحضارة إذا كانت الأخلاق عارية من الحرية ومن الحُكم العقلي والتمييز النظري. يُبرز في هذه الرسالة أن عصره بلغ درجة متقدّمة من التحضّر والتثقّف، ولكن لم تكن الأخلاق هي الوازع الحصيف في السلوك البشري: «إننا مثقفون جداً في ميدان الفن والعلم. إننا متحضّرون جداً إلى حد الإرهاق بالنسبة للمجاملات والآداب الاجتماعية من كل نوع. لكن أن نعتبر أنفسنا متخلّقون، فينبغي الكثير للبرهنة عليه»[12].

يجعل كانط الحرية في جوهر الأخلاق، بل يطابق بين الحرية والأخلاق، ويمنحنا فكرة عن الثقافة والحضارة كما سأتوقّف عليها في القسم الأوّل. فالثقافة في تصوّره، وتبعاً للفكرة الغالبة في عصره، لها علاقة بالفنون والعلوم، أي طريقة في اكتساب المعارف، بينما تنتمي الحضارة إلى نطاق الآداب والمعاملات وفيها الكثير من مظاهر التكلّف والاصطناع. فالأخلاق التي يعتبرها كانط هي الحرية ذاتها، لا يمكن اختزالها في كسب منفعل للمعارف والمناهج لأنّ في ذلك شحن للرأس بالمعلومات والأفكار؛ ولا يمكن إرجاعها إلى الآداب الاجتماعية من احتشام ونبالة ولياقة لما تشتمل عليه من مظاهر خادعة تمليها ضرورة الوقت والالتقاء بالآخر. إن الحرية أو الأخلاق هي مسألة تكوين ذاتي بالمعنى الذي سأتعمّق فيه لاحقاً، أي مسألة تشكيل الذات بالمعنى الألماني لفكرة "البيلدونغ". وينطوي هذا التشكيل على إبداء رأي محايد وحصيف بمعزل عن كل إكراه أو إملاء، أي بعيداً عن كل سيادة عُليا تتجسّد في منظومة سياسية (الدولة) أو دينية (مجتمعات الاعتقاد). ويعبّر كانط عن هذا التشكيل في النصّ ذاته بعبارة «الاشتغال الداخلي الطويل والضروري» الذي يباشره كل مجتمع مدني في تحرير أفراده واكتساب الثقافة بوصفها صناعة للذات. لأن الأساسي في كل تشكيل ذاتي هو أن يفكّر الإنسان بذاته من أجل ذاته، ويتصرّف بنفسه، ويتحمّل مسؤولية أفعاله وتبعة قراراته، أي أنه يمارس حريّته بأتمّ معنى هذه الكلمة، ويمارس رُشده العقلي بأوسع دلالات هذه العبارة.

هيغل هو الفيلسوف الآخر الذي يشترط الحرّية في كل عقل فلسفي بطريقته الجدلية التي تتجاوز الصراعات الجزئية نحو بناء متكامل. يتعلق الأمر باشتغال العقل على ذاته وعلى واقعه المباشر وتتبدّى في هذا الاشتغال قيم الحكم الواعي والتحرّر المنشود. ويجد هيغل في الفلسفة الكنـز المعرفي السامي الذي من شأنه أن يحرّر الإنسان ويهبه أدوات التفكير الحيّ والواعي: «إن تاريخ الفلسفة يقدّم لنا مجموعة النفوس الشريفة التي تغلغلت، بفضل شجاعة عقلها، في طبيعة الأشياء، في طبيعة الإنسان، وفي طبيعة الله، كاشفة لنا عن عمقها، ومثبتة لنا كنـز المعرفة العليا. وإن هذا الكنـز الذي نطالب بحصتنا منه يشكّل الفلسفة بوجه عام»[13]. خلافاً للتصوّر الشائع لا يقتضي الكنـز "الاكتناز" أي أن نحتفظ به ونودعه في صناديق من حديد، بل يتطلّب البثّ والانتشار لأنه كنـز روحي بأوسع معاني الروح التي تحدّث عنها هيغل. فهذا الكنـز هو الرأسمال الذي يستقي منه الإنسان صفقات حياته النظرية والعملية، ويخصّ الروح كشيء خالد وسرمدي في ما وراء المتغيّرات الزمنية. إنه صنو الحقيقة في بُعدها المتواري وراء تجلّيها المتوالي في الأنظمة الفكرية والسياسية وفي الصنائع البشرية. فالفلسفة تبحث عن الأساسي والجوهري، وأستعمل مفردة "الجوهري" بالمعنى المزدوج للعميق الغائر في الذات الإنسانية وللنفيس أي الكنـز الذي يُعتمد عليه في تغذية الروح وتحقيق حريتها. ويتمّ توزيع هذا الكنـز بتثمين خاصيّة "التفكير" لدى الإنسان، لأنه الكائن الوحيد الناطق والمفكّر، وبالتالي الكائن الوحيد الحرّ: «إن الفكر بذاته حرّ وخالص، ولكنه عادة يرتدي شكلاً ما؛ إنه فكر متعيّن، خاص. إن الفلسفة وحدها هي الفكر الحرّ، اللامتناهي [...] والحال، فإن الفلسفة تعلّمنا الافتكار، تعلّمنا كيف ينبغي علينا التصرّف في هذا الحال؛ وهي تعالج مواضيع من نوع خاص؛ غايتها جوهر الأشياء، لا الظاهرة، الشيء بذاته كما يكون في التمثّل. إن الفلسفة لا تنظر في تمثل كهذا، وإنما تنظر في جوهر الموضوع، وهذا الجوهر هو الموضوع ذاته، وبالتالي فإن الفكر هو موضوع الفلسفة. وعليه يكون الروح حرّاً عندما ينشغل الفكر بنفسه، عندما يكون إذن لنفسه»[14].

يصبّ اهتمام هيغل في الوجهة نفسها التي تولاّها كانط وهي قدرة الإنسان على أن يفكّر بذاته، أي أن يكون حرّاً في تفكيره. فالتفكير خاص بكل إنسان على حدة وهذا التفكير الذاتي يعبّر عن تصوّر معيّن للوجود ونابع من الأعماق الذاتية والجوهرية، فهو بالتالي تفكير حرّ لا تشوبه علائق، تفكير نتاج الإرادة الحرّة، ولأن الحرية هي أيضاً القدرة على التفكير. العجز عن التفكير هو انتفاء للحرية، هو نفي للشرط الإنساني. يتعلّق الأمر بكيفية تصريف الكنـز الخفيّ ليصبح تفكيراً جليّاً قائماً على وقائع العالم. وفي ذلك يستعمل هيغل فكرة "الأوفيبونغ" (Aufhebung) التي سأعود إليها في طيّات هذا الكتاب. والفكرة هي جدلية في جوهرها، متوتّرة، لأنها تعني في الوقت نفسه الاحتفاظ والمجاوزة. لأن العنصر يحتفظ بشيء خفيّ لا ينفك عن الاشتغال في طيّاته، ولكن يتجاوز العنصر هذا الشيء الخفيّ بإقحامه في وضعيات جديدة تغيّر من هويته وتعدّل من صيغته، فيصبح «هو لا هو» إذا جاز لي استعمال المقولة العرفانية في التراث الإسلامي. فالكنـز الخفيّ الذي هو الفلسفة لا ينفك عن التحوّل عبر موضوعاته يغيّرها ويتغيّر بها، يعمل بها ويعتمل فيها. والصورة الأقرب إلى هذه الفكرة هي جدل البذرة والشجرة من حيث أن البذرة هي حاملة أوصاف الشجرة اللاحقة، والشجرة هي حاملة بقايا البذرة السابقة: «إن البذرة بسيطة، تكاد تكون نقطة؛ لكن المجهر لا يمكنه أن يكتشف فيها شيئاً يُذكر؛ لكن هذه البساطة حُبلى بكل صفات الشجرة. فكل الشجرة في البذرة، الأغصان، الأوراق، لونها، رائحتها، طعمها، إلخ؛ غير أن هذا الشيء اللطيف، البذرة، ليست هي الشجرة عينها، هذا المجموع المتنوّع لم ينوجد بعد»[15]. يورد هيغل هذه الفكرة في سياق حديثه عن تطوّر الكائن بالاستعداد والانتقال من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل تبعاً للمعجم الأرسطي، وهي فكرة ستساعدنا أيضاً في فهم خاصيّة "البيلدونغ" كثقافة في التكوين الذاتي، كثقافة في التفكير الحرّ.

لكن الفكرة الجليلة الممكن استنباطها من هذه الصورة المجازية للبذرة والشجرة، أو بشكل أوسع من صورة الاحتفاظ والتجاوز هو أن الكنـز المخفي لا ينفك عن التجلّي في رسومه أي في تعيّناته وإنجازاته الواقعية. إذا كانت الفلسفة هي هذا الكنـز الخفيّ، فإن الثقافة بمواردها المتنوّعة وتوزيعاتها في الفن والعلم والدين والأخلاق هي التي تتيح تصريف هذا الكنـز إلى صفقات عبر الابتكارات العلمية والإبداعات الفنية والتأويلات المذهبية. فلا تنقطع الفلسفة عن التجدّد في خبايا الصنائع والابتكارات ولا تتوانى الثقافة عن مجاوزة الفلسفة بالاحتفاظ بما يؤسّس جوهرها الدفين وهو التفكير الحرّ. فالثقافة تتجاوز الفلسفة كمذهب أو نسق له قوانينه الداخلية وتواريخه المعلومة، ولكنها تحتفظ بما يشكّل خاصية الفلسفة وهو التفكير الذي ينطلق من الأعماق الراسخة كجذور البذرة ويبتغي الآفاق الواسعة كأغصان الشجرة. ففي كل إبداع ثقافي ثمة تفكير فلسفي قابع لا ينفك عن التحوّل والارتقاء بتحوّل الإبداع الثقافي نفسه. فلا تنفك فروع الثقافة عن تفكير فلسفي محايث ومتوارٍ في شكل مقولات أو مفاهيم تنظّم مساحة تلك الفروع كما هو الشأن مع الفن الذي ينطوي في حقله على قيم الرمز والتصوير والجمال؛ والدين الذي يشتمل على قيم الجدل والقياس والفهم والتأويل؛ والعلم الذي يتضمّن على قيم البرهنة المنطقية والتحليل والتركيب، إلخ. هناك في الوقت نفسه مجاوزة للأطر التقليدية للفلسفة واحتفاظ بالأساليب الفكرية الحيّة التي تختزنها. لأن الفن لا يفكر بالفلسفة ولكن بالتفكير الذي هو جوهر الفلسفة؛ وليس للدين الموضوع نفسه الذي تشتغل عليه الفلسفة، ولكنه يستعين بأدواتها في القراءة والتقصّي وأنماطها في التفكير للاهتمام بموضوعه المباشر وهو الألوهية وكل المباحث المرتبطة بها؛ ولم يعد العلم بحاجة إلى الفلسفة بحكم الأشواط التي حقّقها في إعادة النظر في السببية وبنية الفضاء وحقيقة الطبيعة، ولكنه يحمل بذور التفكير الدقيق والمتمعّن في دراسة الظواهر التي تصادف مشواره المعرفي والتقني. إن فروع الثقافة من فن وعلم ودين ولغة وأسطورة تتغذى من الجذر نفسه وهو التفكير الفلسفي، التفكير الحرّ في الصياغة والبناء، تفكير حيّ ودينامي لا يزال يساير حركة الحياة دون أن يقبض عليها، يجاري مياهها وسيولها دون أن يتوهّم إدراك حقيقتها وألغازها.

والتفكير الفلسفي، بما هو حرّية تسعى إلى التجسُّد في الصنائع والابتكارات والقراءات والتأويلات، هو أيضاً ممارسة عملية لأن تجسيد الحرية يكون بالفعل المتعقّل أو بالسلوك الصانع والحاذق، ولأن الثقافة هي في جوهرها صناعة عملية تُبرزها الفنون والعلوم والمذاهب عبر سلسلة من الإبداعات والاجتهادات. فالربط بين النظري والعملي أو تمفصل التفكير بالتدبير هو أساس العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والثقافة، لأن الفلسفة هي صانعة للمقولات والمفاهيم والثقافة هي صانعة للأشياء ولأنظمة الذوق الفني والتأمّل العلمي والتأويل المذهبـي، فيتقاطع فيها المفهوم الفلسفي بالأداء الفني والتعبير السياسي والتجريب العلمي والتفسير الديني، إلخ. وكان هايدغر يرى في التفكير كنهج يفيد السلوك والتدبير وليس فقط التخمين والتجريد[16]. فهو البؤرة التي تتيح المسار أي تُبرز كينونة الإنسان كحقيقة فاعلة وعملية تصدّقها الصنائع والأبنية المختلفة التي تحتويها الثقافة بحذافيرها. وهل الثقافة هي شيء آخر سوى الإرادة الحرّة التي تتجسّد في العمل بحيث يصبح الإنسان كائناً فاعلاً وعاملاً بالإضافة إلى كونه كائناً ناظراً ومفكّراً؟ فالتفكير يقتضي الأداء لأنه يميل بطبعه إلى التجسّد في الإنشاءات البشرية من فنّ ومعمار وتخطيط وتعليم وصناعة وتأويل. والعمل البشري هو في جوهره حُريّة لأن الإنسان يتحرّر بأداء فعل أو شُغل وظيفة، فيقوم بالتنفيس عن الهواجس والرغبات والتصوّرات بتحويلها إلى دوافع في الحركة وطاقة في الإنتاج. وفي ذلك ينعطف التفكير على التدبير ويلتقي النظري بالعملي وتكتمل الفلسفة بالثقافة: «الفلسفة هي الثقافة الحقيقية بامتياز والتخلّي عنها هو التخلّي عمّا يؤسّس الشرط الإنساني الحقيقي. ألم يقل رونيه ديكارت (1596-1650) بأن "العيش بدون الفلسفة هو كإغماض العينين دون القدرة على فتحهما"؟ الفلسفة هي كنـز البشرية ومن خلالها يطوّر الإنسان تفكيره كإنجاز للحقيقة وللحرية الفعلية. نفي الفلسفة هو البربرية بعينها في أعتى صورها»[17]. فالتفكير الفلسفي الموزَّع في أشتات الفعل الثقافي هو المتراس ضدّ النـزوع نحو القهر والجزم والتعصّب والتصلّب لأنه الضامن للحرية في الإبداع والسبيل نحو البحث الحثيث عن الحقيقة في التجليّات الإنسانية. لكن لم تكن الأمور، وليست الأمور، بهذه الدرجة من السهولة وتفسّر هذه المسألة تواقت الحديث عن الثقافة بالبؤس أو الفلسفة بما عاداها تاريخياً.

Pages