كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كذلك إذا أخذنا "الفلسفة" كمقولة يصعب استنفاد دلالتها لأن كل مذهب فكري أو شخصية تاريخية منحت لهذه المقولة تحديداً معيّناً تلوّن حسب الألوان المذهبية (مادّية، مثالية، واقعية، روحانية، إلخ)، وإذا أخذنا مقولة "الثقافة" كفكرة يصعب أيضاً حصرها نظراً للوساعة التي تتميّز بها، فإننا ندرك بالتالي أن كل حد ينتمي إلى مجال معيّن: تنتمي "الفلسفة" إلى المجال النظري في البحث عن علل الوجود باستعمال وظائف تقنية (السؤال) أو ذهنية (التأمّل) أو فكرية (تحليل، تفسير، تأويل)؛ وتنتمي "الثقافة" إلى المجال العملي في تجسيد فكرة (رسم، نحت) أو ابتكار رمز (أسطورة، دين، أخلاق) أو اختراع وسيلة (علم، اقتصاد)، إلخ. وبالجمع بينهما يمكن الحصول على مركّب من النظري والعملي، أو بالأحرى كيف يعمل النظري على مقاربة العملي، كيف يشكّل بشأنه مجموعة من الأطروحات والأسئلة والمقولات، وكيف يدبّر هذه المجموعة من التساؤلات والإشكاليات في منهج أو نسق، إلخ. وهذا شأن العديد من المباحث التي عملت الفلسفة على دراستها وهي عديدة ومتنوّعة: مثلاً، فلسفة العلم، فلسفة الدين، فلسفة السياسة، فلسفة الأخلاق، فلسفة التربية، فلسفة الطبيعة، فلسفة المعرفة، فلسفة اللغة، فلسفة التأويل، فلسفة التاريخ، إلخ. و«فلسفة الثقافة»؟ لم ينل هذا المركّب حقّه من المعالجة وحظّه من الدرس والتنقيب كما اعترف إرنست كاسيرر (1874-1945) مثلاً، وهو الذي نعتبره أول فيلسوف في الثقافة في العصور الراهنة: «من بين كل الميادين التي نميّزها في النسق الفلسفي، يبقى ميدان فلسفة الثقافة جديراً بالمساءلة والأكثر سجالاً. لم يتحدد هذا المفهوم بشكل واضح ولم يترسّخ بشكل متناسق.[...] يَنتج هذا الارتياب من كون أن فلسفة الثقافة هي فرع معرفي حديث العهد، لا يستند إلى تراث قائم أو تطوّر زمني. تقسيم الفلسفة إلى ثلاثة فروع رئيسية: المنطق والطبيعة والأخلاق كان ساري المفعول منذ القدم ولم يتعدّل منذ تلك الفترة»[5].
إذا لم يتسنّ لهذا المركّب أن يتطوّر بشكل متناسق كما يعترف كاسيرر، فلثلاثة أسباب رئيسية: أولاً، المنعطف الحاسم الذي اتّخذه العلم منذ عصر الأنوار في القرن الثامن عشر بتطوّر العلوم الرياضية والتجريبية والفنون الميكانيكية، وبلغ أوجّه في القرن التاسع عشر مع ظهور الوضعية وتطوّر التصنيع الذي غيّر وجه العالم آنذاك ببروز المواصلات السلكية (الهاتف) والجغرافية (السكة الحديدية). فلا شك أن هذا التطوّر في العلم يدخل في نطاق الميادين التي اعتنت بها الفلسفة منذ مهد ظهورها وأقصد المنطق (العلوم الرياضية والهندسية) والطبيعة (العلوم التجريبية)، بينما كانت الثقافة مضمرة في الميدان الآخر وهو الأخلاق (السياسة، الدين، الحضارة) ولم يكن لها وجود مستقل؛ ثانياً، إذا تمكّنت الثقافة من الحصول على استقلالية نسبية، فإن هذه الإمكانية لم تأت من الفلسفة، بل من العلوم الإنسانية التي بدأت في التبلور ابتداءً من القرن الثامن عشر كما بيّن ميشال فوكو (1926-1984) في «الكلمات والأشياء» وجعلت من "الإنسان" موضوعاً لها، أي الإنسان كمفهوم أو كشيء مجرّد (علم الاجتماع، علم النفس). لكن عندما نـزلت إلى الواقع (الإثنولوجيا، الأنثروبولوجيا) لتدرس الإنسان الذي افتقدته في النظرية، فإنها وجدت في العلم التجريبـي والوضعي خير حليف لها وقامت، بوتيرة متباينة، بتطبيق الأطر النظرية للعلم الحديث على الاجتماع البشري؛ ثالثاً، أسّس هذا التطبيق العلمي الذي يبتغي الموضوعية والصرامة (توضيع مفهوم الإنسان) مسافة إبستمولوجية ونقدية بين الذات والموضوع، سليلة نظرية المعرفة العلمية، أي بين الملاحِظ العلمي (الإثنولوجي، الأنثروبولوجي) والموضوع المدروس (الفرد، المجتمع البدائي، إلخ). ولم ينشأ عن هذه العلاقة فقط "المعرفة" في شكل جداول تصنيفية وخطابات تفسيرية وملاحظات موثّقة بالتجربة والصورة، ولكن أيضاً "السلطة" عبر الحبس المزدوج للموضوع المدروس: 1- الحبس داخل الخطاب عبر المقولات أو الأحكام النظرية، أي داخل تصوّر للعالم يتبنّاه المراقب العلمي بوصفه ينتمي إلى حضارة يعتبرها راقية، وهو ما يمكن تسميته بالتمركز الحضاري؛ 2- الحبس داخل مؤسّسات تشريعية أو صحّية بعزل الموضوع المدروس في نطاق جغرافي عبر بسط هيمنة واقعية وملموسة تجلّت تاريخياً في الحملات الاستعمارية.
بسبب هذه الهيمنة التجريبية، كان للثقافة اهتمام بارز في العلوم التاريخية والأنثروبولوجية، واهتمام نادر من وجهة نظرية فلسفية. من الوجهة الفلسفية كانت هنالك بعض الإشارات عند هيغل (1770-1831) في «فينومينولوجيا الروح» مع ما اصطلح عليه اسم "البيلدونغ" (Bildung) ولي وقفة مع هذا المصطلح الذي يرتبط أكثر بالتربية منه بالثقافة حتى وإن لم يكن بالإمكان الفصل بينهما، بحكم أن التربية هي أداة الثقافة في ترسيخ السلوكيات والأفكار، وتسبقها في الزمن وفي الدرجة، لأن التربية لها علاقة بالنشأة البشرية في ما يتعلق بالتكوين الجسدي والذهني والارتقاء في الوعي والإدراك. ثم الإشارة الفلسفية عند جيورج زيمل الذي كان بالأحرى سوسيولوجياً في نمط مقاربته للوقائع البشرية، حتى وإن عمد إلى إبراز القيم الفلسفية للمباحث التي اشتغل عليها، ويمكن التأكّد من ذلك عبر مؤلفاته «فلسفة المال»، «فلسفة الحب»، «فلسفة الثقافة»، هذا الكتاب الأخير الذي سيكون المادة التي سأشتغل عليها لإبراز ما يقصده بالفلسفة الثقافية، وهو في ذلك يأخذ بالنسق الهيغلي في معالجة هذه المسألة. وستكتمل المسألة مع إرنست كاسيرر الذي بذل جهداً نظرياً وعلمياً في الاضطلاع بالثقافة كمبحث فلسفي حتى وإن كان يعترف بالصعوبة في إرساء هذه الفلسفة الثقافية نظراً للطابع المبهم لمفهوم "الثقافة" الذي يشتمل على شتات من الأفعال البشرية في الصنائع والابتكارات والتأسيسات الرمزية عبر التاريخ. لكن تبقى محاولات كاسيرر جادة من حيث الكمية والنوعية: 1- من حيث الكمية أولاً، لأنه عكف طوال حياته على التنظير لما يسمّيه «التشكيل الرمزي» للأفعال البشرية والتي تتجسّد في الدين والعلم والفن والأسطورة واللغة وله في ذلك محاولة في أربعة أجزاء «فلسفة الأشكال الرمزية» وكتابات أخرى تدور في معظمها حول فلسفة الثقافة من وجهة نظر نقدية وتأويلية (هيرمينوطيقية)؛ 2- من حيث الكيفية ثانياً، لأن المناهج النقدية والتأويلية التي وظّفها في هذا الشأن أتاحت له الكشف عن البنيات الضمنية للروح الخلاّقة وإبراز التشكيلات التاريخية المنجرّة عن هذا الخلق والابتكار. فلم يترك مذهباً فلسفياً أو نظاماً دينياً أو تيّاراً فنياً أو منهجاً علمياً إلاّ وانكبّ على قراءته في تفاصيله ودراسة عملية تشكّله وتحوّله وإسهامه في بناء مفهوم الثقافة.