كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كيف نأخذ الفكرة التي يطرحها هذا الكتاب وهي الفلسفة بوصفها كنـزاً مخفيّاً لم تحسن البشرية استثماره وعوّضته بالبربرية أي الهمجية المهدّمة للحضارة والناقضة للعقل الحيّ والمركّب؟ كذلك الثقافة هي كنـز مخفيّ، اختفت تاريخياً في الرسم ولم تَبرز في الإسم سوى بتطوّر المعارف الإنسانية. ما هو هذا الكنـز المكنون الذي به قوام البشرية والتقويم النظري والعملي، الفكري والسياسي، لما اعوجّ في البشرية وعدل عن الحقّ لينقض بضده؟ إن الكنـز بطبعه عزيز، نادر، فريد. يُحتفَظ كرأسمال ويُتداول كصفقات. فهو في الوقت نفسه الثابت والمتغيّر، الجوهر والعلاقة، البؤرة والمجال، المركز والمحيط. كذلك الفلسفة في تاريخها العريق أو الثقافة في تاريخها الحديث كانت ولا تزال هذا "المبدأ" الذي تنطلق منه المواهب النظرية والابتكارات العملية و"الغرض" الذي تصبو إليه وتنتهي بالوقوف عليه، لا لتسكن إليه بل لتبني عليه وتفكّر فيه. فتنهل من الكنـز المكنون لتقرأ الحدث العابر لأن من خاصيّة الفلسفة أن تبقى كنـزاً مخفيّاً تتوارى في حقيقتها وتندمج بالعالم بآثارها ومذاهبها: «الفلسفة هي في جوهرها قبل أوانها، لأنها تنتمي إلى هذه الأشياء النادرة حيث يكون مصيرها هو عدم مصادفة الصدى المباشر في يومها الخاص»[9]. فهي الشيء الذي يضحى خفيّاً في ماهيته، بارزاً في آثاره ويمدّ ما عداه من أدوات القراءة وأساليب التحليل والتركيب وأنماط الجدال والسجال. إنها "الحُب" الذي يتبدّى في الرغبة في المعرفة تبعاً لأصلها الاشتقاقي «فيلا سوفيا»: محبة الحكمة؛ وإنها "الحَب" في تشتيت الأفكار وتوزيع المفاهيم على الأرضيات المذهبية بُغية الحصول على منتجات نظرية وأنساق فكرية. لكن الحُبّ هنا ليس قناعة أو إيحاءً أو إلهاماً أو تكهناً لأن الفيلسوف يختلف في طريقة إدراكه للعالم عن الحكيم أو النبـي أو مفسّر الأحلام، ويتّخذ من ملكة الحُكم أداة في القراءة والتقدير. فهو يستعين بالعقل الجامع بالمعنى الألماني (Vernunft)، العقل الباحث الذي عندما يوزّع الحبوب على أرضيات التفكير فإنّه يجمع الثمار في رؤية فنّية وبلاغية حصيفة، أي أنّه عندما يحلّل موضوعاته ويبسُطها على حقل النقاش والجدال والتساؤل، فإنه يعيد تركيبها بصيغة مغايرة تعبّر عن نموذج جديد ورؤية متجدّدة.
كان هايدغر قد طرح فكرة العقل الجامع تبعاً للمقولة الألمانية حيث تفيد الدلالة "الجمع" أو "الربط"[10]. والعقل في اللسان العربـي له أيضاً دلالة الجمع وعبّرتُ عن ذلك بهذه الفقرة: «العقل هو ما يمسك الوحدة العضوية للنفس البشرية والاجتماع الإنساني. تفكّك الروابط النفسية يؤدّي إلى خلل عقلي؛ وتشظّي الروابط الاجتماعية هو مسحوق الانفجار ومادّة العنف والانهيار. فما يمسك هذه العلاقات ويقيم بينها الوحدة العضوية والحيوية فهو "العقل". ومنه المعقل أو الملجأ: اللجوء إلى ما يدرأ تفكك الروابط وانفصال الأجزاء نحو تيه وجودي أو انهيار نفسي أو اجتماعي. اتجاه العقل إلى ربط الأجزاء والحفاظ على التماسك الداخلي للعناصر والبنيات هو نوع من التشابك والتشاجر بين العلاقات والمجازات»[11]. فالعقل في جوهره عبارة عن رباط أو "عِقال" كما كانت العرب تأخذ به لأن من شأن العقال أن يحجُر الدواب من الفرار إذا لم يتمّ ربطها بإحكام. وبالقياس يشتغل العقل بالوتيرة نفسها من حيثُ قدرته على الربط بين الأجزاء لمنع التشرذم والتبعثر وله في ذلك خاصيّة أخلاقية بالنهي عن اقتراف الآثام. يبدو الاختلاف بين الإدراك الغربـي للعقل والإدراك العربـي له أن الإدراك الأوّل (الغربـي) يضع العقل على المستوى العملي في الربط بين الأشياء على مستوى الحساب والتقدير والتخمين، أي هو عبارة عن ممارسة وتمرين وتدريب وإدارة وغيرها من الأحكام العملية الصرفة التي تنعطف عليها الرؤية النظرية الحصيفة؛ بينما يضع الإدراك الثاني (العربـي) العقل على المستوى الأخلاقي بدرء المظالم وحجر التعدّي ودفع الديّات وتسليم العطايا على ما نقرأ في معاجم فقه اللغة والاشتقاق. يشترك الإدراكان في الدلالة (الجمع، الربط) ويختلفان في الصيغة (العملية-البراغماتية بالنسبة للإدراك الغربـي للعقل، الأخلاقية-الدينية بالنسبة للإدراك العربـي).
لكن بين الإدراك الغربـي الذي آل إلى عقل ذرائعي في الحساب والتصنيف والتنسيق يخلو من روح وثقافة والإدراك العربـي الذي آل إلى عقل أخلاقي جافّ وصارم تنعطف عليه الحساسية الدينية في الأوامر والزواجر، فإن العقل الفلسفي المنعطف على الثقافة أصبح كالدرّة اليتيمة أو بتعبير فيراري "الكنـز المخفي" المتواري تحت ركام الإيديولوجيات والسياسات والمعتقدات. فتوجّب إخراج هذا الكنـز المخفي وتصريفه كالرأسمال إلى صفقات وتداوله كمعاجم وتأمّلات فكرية لا تكتفي بالعرض والتصنيف ولكن تلج في عُمق الكائن لفحص شرطه الوجودي والتساؤل المحموم والحميمي حول حالته بين الإمكان والضرورة. إن "لابدّية" التفكير الفلسفي أو وجوبيته تقتضي أخذ الثقافة مأخذ الجد وجعلها المقولة والمفهوم، القيمة والمعنى، الظرف والصيغة، في أزمنة ارتدّ فيها العلم إلى تقنية أي إلى مجرّد أداة للاستعمال الذرائعي في الترويع الاستراتيجي أو التنويع الاقتصادي؛ وأصبحت فيها السياسة مجرّد لعبة شطرنج في تبديل المواقع حسب ضرورة المصالح وهجرتها الروح السجالية والديمقراطية التي شكّلت جوهرها التاريخي مع الفضاء العمومي الإغريقي وحتى الأبنية النظرية في الشرط السياسي للإنسان الحديث والمعاصر. إن خاصية التفكير الفلسفي الذي يتّخذ من الثقافة حصان طروادته أن يزرع بذور التأمّل النقدي المتحرّر من الإملاء القسري والإكراه القهري، لأن خاصيّته هي تحرير الضمائر من المضمرات في السياسة والإيديولوجيا أي مساءلة حقيقة الإنسان التي هي التفكير الواعي وليس الاعتقاد السلبـي، الحرية المنشودة وليس الخضوع المفروض. وعملياً، الثقافة هي التي تهب للإنسان أدوات هذا التحرّر من خلال التعبير الفني والصياغة الجمالية لأشكال الإبداع والابتكار. لأن قيمة التحرّر تكمن في البحث عن الحقيقة لذاتها، في اكتشاف الوجود كما يتبدّى للإدراك البشري بجماله وجلاله، بعنفه وتراجيديته، في صناعة الواقعة الفردية والجماعية بالاشتغال على الذات والتواصل بالغير؛ وليس الحقيقة كما تحيكها إرادة السلطة، كشيء جاهز ينبغي حشوه في الضمائر، كإيديولوجيا ينبغي غرسها بالترغيب أو الترهيب والسهر على رعايتها بالوسائل الردعية.