You are here

قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 5

لقد كانت محاولة كاسيرر متكاملة حتى وإن لم تكن كاملة، وبيّنتْ بالقدر الكافي الميادين التي تتجلّى فيها الثقافة والقواعد النظرية التي تقوم عليها والقيم المعرفية والجمالية التي تنطوي عليها. لقد سعى إلى إرساء المبادئ الأولية في «نقد العقل الثقافي» أسوة بكانط (1724-1804) الذي أخذ عنه قيمة النقد في البحث عن شروط إمكان المعرفة ووسّع ذلك على المباحث التي اشتغل عليها وهي الدين والفن والعلم والأسطورة واللغة. فضلاً عن ذلك، عمل على إرساء ما اصطلح عليه اسم «النَحْو الثقافي» أي قواعد في التركيب والوصل بين الشتات المعرفي والتنوّع النظري لإيجاد مبدأ أو ركيزة حَريّة بمفهوم الثقافة كما للطبيعة مبدأ قام العلم خلال تاريخه الطويل والمعقّد بالكشف عنه (الحركة، العطالة، الجاذبية، النسبية، إلخ). لكن كيف نجد مبدأً خاصاً بالثقافة؟ وهل هو مبدأ علمي أم فلسفي؟ إذا كان هذا المبدأ علمياً ألا يُعتبر ذلك مجرّد محاكاة للمعرفة العلمية كما افتتنت بها المعارف الإنسانية وقامت بتطبيقها على المجال الأدبـي أو الفلسفي، على غرار دلتاي في العلوم التاريخية؟ هل يتعلّق الأمر بمحاكاة أم تماثل أي باستعارة المناهج العلمية وتطبيقها على المعارف الإنسانية مع الحفاظ على الجوهر البشري (الوعي، الفكر، الروح) الذي لا يخضع للتجريب والحساب والوزن الكمي؟ لقد قام كل فيلسوف باستعمال المنهج العلمي حسب حاجاته وموضوعاته بالبحث عن الشروط الموضوعية للمعرفة الإنسانية، فكان الغالب هو «النقد» تبعاً لما نجده عند دلتاي وكاسيرر؛ أو بالبحث عن الشروط الأنطولوجية والفينومينولوجية للثقافة البشرية، فكان الغالب هو «الفهم» كما ضلعت فيه الهيرمينوطيقا مع مارتن هايدغر (1889-1976) أولاً، ثم مع أتباعه مثل هانس جيورج غادامير (1900-2002) ثانياً الذي أعتبره هو الآخر فيلسوف الثقافة لاعتنائه بالمباحث الرئيسية في «الحقيقة والمنهج» وهي الفن واللغة والتاريخ.

والسؤال الممكن طرحه في هذا السياق: هل الثقافة هي علم أم فلسفة؟ حاول كاسيرر الإجابة عن هذا السؤال-المعضلة بكثير من الحصافة واللباقة، بالعروج على تاريخ الأنساق الفكرية والعلمية، فكان يتأرجح بين النقد والفهم، بين التفسير والتأويل، بين المبدأ الثابت والشكل المتحوّل. ويحمل السؤال في طيّاته على إحراج بالمعنى الشكوكي العريق عند سكتوس أمبيريقوس (160-210) في الثقافة الإغريقية: إذا كان الارتياب من كون الثقافة عبارة عن فلسفة هو كبير، فإن الاشتباه في كونها علماً فهو أكبر. لكن لندع هذا النـزوع الشكوكي جانباً والذي يقود في الغالب إلى الحل العدمي، ولنقارب المسألة في احتمالاتها النظرية وإمكاناتها التاريخية. وسيتم ذلك في معرض دراستي للوجوه الشهيرة التي أخذت الثقافة كمبحث فلسفي بالدرجة الأولى، مع الوقوف أيضاً عند المباحث الأنثروبولوجية التي ساهمت في تطوير مفهوم الثقافة في الميدان الذي تشتغل فيه وهو ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي الحقيقة، التساؤل عما إذا كانت الثقافة هي علم أو فلسفة هو سؤال ينطوي على مغالطة، لأن العلم والفلسفة هما عبارة عن ظاهرة ثقافية تجلّت في الأنساق الفلسفية والنظريات العلمية. فلا يمكن الحكم على الثقافة بحاكم ينتمي بحذافيره إلى الثقافة كإحاطة. إذا كان المراد بعلمية الثقافة هو المبدأ الثابت الذي يدبّرها كالسببية مثلاً بالنسبة للعلم، فهذه العلمية هي الأخرى عبارة عن اختراع فكري بالاستناد إلى الملاحظة والتجريب، وإسقاطها على الثقافة هو إهدار في جوهرها الإنساني الذي يقوم بالأحرى على أساس مغاير يتطلّب أدوات أخرى للكشف عنه وتدوينه في خطاب. لكن إذا كان العلم ينتمي إلى الثقافة كما أسلفتُ وإذا كان البحث عن مبدأ علمي للثقافة لا يعدو أن يكون مجرّد نقل مجازي لمعطيات العلم نحو الأرضية الإنسانية، فكيف يمكن تبرير «فلسفة الثقافة»؟ أليس القيام بفلسفة في الثقافة هو أيضاً الحكم على هذه الأخيرة بحاكم ينتمي إليها ويسبح في محيطها؟ فكيف يحكم عليها وهو في قبضتها؟

كما سنرى لاحقاً، فكرة "فلسفة الثقافة" تختزن على قيم أقل ادّعاءً في بلوغ الموضوعية والبداهة. لأن خلافاً للعلم الذي يبحث عن مبادئ تدبّر الموضوعات التي يدرسها ويسعى لاستخلاصها في شكل قانون عام (السببية مثلاً)، فإن الفلسفة تنأى بنفسها عن هذه المزاعم ما دام الغرض ليس هو البحث عن قاعدة ثابتة تتأسّس عليها المعارف والأفعال البشرية، ولكن التساؤل حول الكيفية التي تتشكّل بها هذه المعارف والأفعال. والفلسفة في جوهرها هي «سؤال» بالمعنى الذي سنراه لاحقاً، بواسطة الأدوات الاستفهامية «كيف؟»، «ماذا؟»، «لماذا؟»؛ بينما يذهب العلم نحو الإجابة عن الأسئلة بالإقرار بحقائق يعتبرها صادقة وسليمة. إذا كان جوهر الفلسفة هو التساؤل حول الوجود، فهذا يجعل منها أكثر انفتاحاً على المصادفات والاحتمالات والإمكانات، لأن السؤال هو بطبعه مفتوح، يتجنّب التصلّب والحسم، ويتفادى الانتهاء عند مطلب أو الالتفاف حول مزعم. فهو يدفع نحو اللانهائي بإعادة النقد والمراجعة؛ ونفهم لماذا حصر إيمانويل كانط مشروعه النقدي في الأسئلة الثلاثة الكبرى: «ماذا بإمكاني معرفته؟» ويخصّ المعرفة (العقل النظري)، «ما يجب عليّ فعله؟» ويخصّ الواجب والأخلاق (العقل العملي)، و«ما بإمكاني رجاؤه؟» ويخصّ الحرية (ملكة الحكم). هذا لا يعني أن الفلسفة لا تقدّم الحلول بعرض الأطروحات، بل ينخرط التساؤل في عملية من التفكير، أي في نشاط فكري يطرح تناقضات الوجود وصراع التأويلات ليحاول إيجاد التوافقات الممكنة وفي هذه المسألة جعل هيغل من الجدل أو الديالكتيك جوهر فلسفته، لأن السؤال يجابه اعتراضات ليطرح قضايا أو أطروحات كأجوبة مؤقّتة لتصبح بدورها استفهامات. فالوجود في تركيبته المعقّدة، وخصوصاً الوجود البشري، وفي ارتقائه التاريخي وإرادته الفردية أو الجماعية، يتطلّب طريقة جدلية في التعامل مع المعطيات وصيغة دينامية في مقاربة الوقائع، ويشكّل هذا الأمر همّ الفلسفة الرئيسي واهتمامها المباشر.

والسؤال السابق حول علمية الثقافة يستدعي سؤالاً آخر: هل الثقافة هي نظرية أم ممارسة؟ وهنا أيضاً لا يمكن التخيير بين حدّين هما في الحقيقة متكاملان. لأن النظري يجد تجسيده في العملي؛ والعملي، بحكم تشعّب مجالاته وتشتّت أفراده، يتطلّب في الغالب أساساً نظرياً يُبرز فيه عن منطقٍ داخلي ويجمع التفرقة في وحدة فكرية شاملة. فالحديث عن فلسفة الثقافة هو، من الوجهة النظرية، التأمّل النقدي في شرطها الوجودي وتركيبتها التاريخية؛ ومن الوجهة العملية تشكيل هذه الثقافة بالصنائع المفهومية والتركيبات المنطقية. هل يتعلّق الأمر بجعل السيولة اليومية في الفنون والابداعات والتشكيلات عبارة عن تركيبات ومقولات وقوالب؟ أو بالعكس، هل السيولة الثقافية هي التي تحرّك الثوابت النظرية والتأمّلات الفلسفية؟ في الحقيقة لا تنفك المسألتان عن بعضهما مثلما تتيح الأرضية الصلبة تجمّع الماء في التصوّر الجيولوجي، ومن الماء الكاسح تظهر الجزر. مفاد هذه الصورة المجازية التي أشرتُ إليها سابقاً أن الفلسفة التي تنشأ من بحر الثقافة هي أيضاً الدعامة الصلبة، النظرية منها والعملية، في تمكين الثقافة كسيول تتسلّل في أدق الجداول وتحت الأرض في الأروقة والدهاليز. لستُ بصدد القيام بجيولوجيا في التفكير، حتى وإن كان للمسألة مسوّغها كما أشرت إلى ذلك في مقدّمة كتابـي «الإزاحة والاحتمال»؛ حيث طبقات الفكر المتراصّة في التاريخ تماثل الطبقات الأرضية من حيث الأزمنة الجيولوجية. لكن قراءة الفلسفة والثقافة من الوجهة النظرية والعملية بين صلب وسائل أو بين خشن وليّن كما يقول ميشال دو سارتو (1925-1986) في كتابه «الثقافة بالجمع»، أو بين صارم وعائم أو بين قارّ وفارّ من شأنه أن يبرز التشابك التاريخي والتداخل المفهومي بينهما. ويبيّن هذا الأمر كيف أن الفلسفة بدون ثقافة هي هراء مادامت تتغذّى من النفحات الثقافية المتشكّلة عبر التاريخ مثل الأسطورة والدين والفن واللغة والعلم وهي مباحث ضلع في الاشتغال عليها إرنست كاسيرر كما أسلفتُ وكما سأعود إلى المسألة لاحقاً؛ وأن الثقافة بدون فلسفة هي خواء لأن هذه المباحث كتبعثُر بشري في الإبداع والابتكار تتأسّس على رؤية في الوجود تلمّ الشتات وتوحّد التبعثُر، لكن ليس في وحدة مطلقة تنعدم فيها الفروقات، لكن في تركيبة جدلية ودينامية تكشف في هيكلها عن الاختلاف في الهيئة والتنوّع في السمة.

Pages