كتاب " ليلة الإمبراطور " ، تأليف غازي حسين العلي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب ليلة الإمبراطور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ليلة الإمبراطور
وخرجنا من البيت بعد أن لففت ذراعي على ذراعها، ورحت وإياها نقفز من مكان إلى مكان.. فمن سورية إلى الهند والباكستان ومنها إلى بلاد الطليان فالأمريكان،ثم بتنا ليلتنا الأولى في أصفهان على سرير واحد محشو بريش النعام... ثم جعلت سعاد تحكي لي وهي تتوسد يدي: بلغني يا حبيبي سعيد، والله أعلم، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان شاب من أهل الشام يدعى سعيد، وكان سعيد هذا فقير الحال لا يملك من أمر الدنيا إلا لقمة يومه الحلال، ولكن قلبه يا سبحان الله مثل ماء زلال.. وكان سعيد يحب بنتاً اسمها سعاد، وكانت سعاد هذه رشيقة القدّ، ذات حسن وجمال، وقدّ واعتدال، وجبين كغرّة الهلال، وخدود مثل شقائق النعمان، وفم كخاتم سليمان. وذات يوم من الأيام قال سعيد لنفسه: والله لأعملن عملاً ما سبقني إليه أحد. فخطف سعاد بطيارة وراح يدور بها من قارّة إلى قارّة، فإذا بهما يحطان في أصفهان، وينامان معاً على سرير واحد محشو بريش النعام ...
لم أعد أتذكر كم من الزمن انتظرت جوابها، ساعة أم ساعتين، يوماً أم يومين، أسبوعاً أم أسبوعين، إلى أن وجدتني أدخل إليها.. وما إن وقعت عيناها عليّ حتى نهضت من خلف مكتبها مرحبة بي، وإذ استفسر منها عن سبب تجاهلها لي كل هذا الوقت، أجدها تحلف لي أغلظ الأيمان أن رقم جوالي ضاع منها. وحين رأتني أستكبر ذلك الإهمال، شرعت تحكي لي قصة اللص الذي خطف محفظتها من يدها وهي تتسوق، ثم كيف ولى هارباً بعيداً عنها... حينئذ فقط بردت ناري واستقرت نحوها مشاعري وأحوالي...
قلت لها: لقد كانت أيام قلق وجدب .. وأكثر ما خشيته أنكِ لم تفهمي القصد.
فأجابت: بلى فهمت.. وأنا موافقة على ما نويت.
قلت: ولكنك لم تسأليني عن شغلي ولا حتى عن طبيعة عملي.
قالت: لا يهم.. فأنت زميلي وحبك لي يكفيني.
خرجت من عندها بعد أن عقدت العزم على زيارة أهلها، لأطلب يدها وأتزوجها على سنة الله ورسوله. وفي الموعد الموعود، سويت شعري بالسيشوار بعد أن غسلته بصابون الغار، ثم تعطرت وارتديت أجمل ما عندي من ثياب.. وعلى عكس ما كنت عليه في أيامي السالفة من المشي وركب السرافيس، فقد استأجرت تكسي أقلتني إلى قبالة دارهم، حتى أحافظ على هندامي أمامهم.
سألني والدها عن أهلي ولماذا جئت لوحدي، فقلت له إن أبي طلّق أمي بعد أن ضبطها مع جارنا أبو زهدي الذي تزوجته على سنة الله ورسوله وسافرت معه إلى السعودية للشغل والعمرة.. أما أبي فيقبع الآن في سجن عدرا بتهمة السرقة.
وسألتني أمها عن شغلي ودخلي، فقلت لها أعمل في البلدية صياداً للكلاب البرية وراتبي حوالي سبعة آلاف ليرة عدا المكافآت الشهرية.
وسألني أخوها عن دراستي وسنة تخرجي، فشرحت له سبب تركي للمدرسة وأنا في الصف السادس، وكيف ثقفت نفسي بالكتب التي أستعيرها من صديقي الوحيد منذ أيام المدرسة.
مرّت دقائق حسبتها دهراً بأكمله، كنت أتصفح خلالها وجوههم بعينيّ المضطربتين واحداً تلو الآخر، بينما كانت سعاد تجلس قبالتي صامتة واجمة. تنحنح أبوها بعد حين ثم قال: اعذرني يا بني فليس لك عندنا نصيب.
وقالت أمها ساخرة وهي تغمز بطرف عينيها: الله يبارك لك بكلابك وبراتبك.
أما أخوها فقد نصحني بقراءة كتب لينين وكارل ماركس ودوستوفسكي وتولستوي.
وقبل أن أكمل فنجان قهوتي، أوصلني أبوها إلى باب البيت، بينما بقيت سعاد تقبع فوق مقعدها حزينة بائسة على فشلي وقلة حيلتي، أما أنا فقد كنت كومة من لحم تمشي على قدمين، وبدت لي نفسي وكأنها تعرّت من جسدي.
في اليوم التالي زرت سعاد في مكتبها وشكوت لها موقف أهلها، فقالت لي غاضبة: لقد أسأت التصرف أمام أهلي مساء البارحة، وما كان يجدر بك أن تقول ما قلت.
ثم رجتني أن أنساها وأن أجد ابنة حلال تناسبني سواها.
فصحت بها مجروحاً: إن حبك يا سعاد قد كبر في داخلي وإنني مستعد لإصلاح ما أفسدته البارحة.
فأشاحت بوجهها عني وتمتمت دون أن تنظر إلى وجهي: لقد انتهى كل ما بيننا، وأرجوك ألاَّ تزورني ثانية في المكتب، لأنني نذرت نفسي للحلال، ولا أريد لأحد أن يلوكني بالسوء من قيل وقال.
فخرجت من مكتبها مكسور الخاطر، لأن قرارها هذا كان قراراً جائراً وفاتر، لكني عقدت العزم على أن أظل أحب سعاد ما حييت، إلى أن يأذن الله لي بها، وقد دعوته سبحانه وتعالى أن يعصمني من حيرتي ولا يحمّلني ما لا طاقة لي بمخالفته، ويقيّض لي من جميل عونه دليلاً هادياً إلى طاعته، ويهبني حباً نقياً خالصاً لسعاد حبيبتي، حتى لا أقع، مثل ما وقع غيري، في سوء الاختيار وقلة التمييز وفساد الهوى.

