كتاب " ليلة الإمبراطور " ، تأليف غازي حسين العلي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب ليلة الإمبراطور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ليلة الإمبراطور
كتبوا شهادة وفاتي وتغيرت عند الحكومة سجلاتي
ورأيت فيما يرى النائم أنني متُّ، وأن رهطاً من الأطباء كانوا يتحلقون حولي، ويتحدثون عن دائي وسبب وفاتي. ولما كنت أسمع حديثهم وأنا على هذا الحال، فقد أدركت حقيقة موتي وانقضاء سنواتي، وإن هي إلا لحظات، حتى يضعوني في البراد، ليأتي أهلي وجيراني، فينقلوا جثماني إلى البيت، ثم إلى المقبرة كي يدفنوني ويواروني تحت التراب.
ورأيت أنني مخطوف بقوة غير مرئية إلى نفق معتم، وأنني صرت خارج جسدي الذي انخلع عني. وما إن بدأت أتأقلم مع وضعي الجديد حتى رأيت وجوهاً بشرية تتوضح أمامي، فرأيت: أبي الذي يقضي محبوسيته في سجن عدرا، وأمي التي رحلت مع زوجها أبو زهدي إلى السعودية، وملامح غير مرئية لوجه رئيس البلدية. اقتربت الوجوه نحوي وعرضت نفسها لمساعدتي كي أتجاوز محنتي، فقلت لهم إني راحل لا محالة، وإن عودتي قد تنقل أطباء المشفى من حالة إلى حالة، بعد أن كتبوا شهادة وفاتي وتغيرت عند الحكومة سجلاتي، فانفضوا من حولي مبتعدين عني وهم يتهمونني بالخبل والجنون. مرّ زمن لا أعرف مدته، أهو لحظة أم لحظتان، ساعة أم ساعتان، يوم أم يومان، شهر أم شهران، سنة أم سنتان .. حتى وجدت ريحاً عاتية تأخذني بعيداً إلى حائط عال يقترب من ألف ذراع، ففهمت لتوي أن هذا الجدار يفصل ما بين حياة الدنيا وحياة الآخرة، فاجتاحتني مشاعر عارمة من الفرح والسعادة وأنا أقول لنفسي: ها قد وصلت إلى الآخرة يا سعيد، فما الذي بعد هذا كله تريد؟ وفيما كنت أنتظر دوري بالعبور، رأيت رؤيا العين، حبيبتي سعاد تقف على يميني وابن عمها الضابط على يساري. حاولت التحدث إليهما فلم يسمعاني وأظن أنهما لم يرياني، فلم أستغرب الأمر، لأنني قبل حين كنت قد تركت جسدي خلفي، وعدوت حيث الحائط وحدي. تشاغلت بالنظر إلى سعاد حبيبتي، علها تنتبه إلى وجودي، فإذا بابن عمها الضابط ينهال عليّ بالضرب والوعيد: كفّ عن حركاتك هذه يا ابن القحبة وإلا أرديتك بمسدسي قتيلاً. وإذ أحاول إفهامه أن سعاد هي حبيبتي منذ أيامنا الماضية في دنيانا الفانية وأن ليس له في قلبها من نصيب، أجده ينهال عليّ بالضرب المبرح إلى أن فقدت وعيي...
وظللت على هذا الحال ردحاً من الزمان، إلى أن صحوت على أصوات تناديني وأيادٍ تهزني، وما إن فتحت عينيّ حتى رأيت جمعاً غفيراً من الناس يتحلقون حولي بينما كان أحدهم يصيح بأعلى صوته: اتصلوا بالإسعاف يا جماعة الخير، فالرجل بحاجة إلى إبرة ضد مرض الكَلب.
وقال آخر: هذه الكلاب الشاردة خرّبت حياتنا والبلدية نائمة لا تكش ولا تنش.
وصاح ثالث: إنها مسعورة.
فقاطعه الأول بصوت مبحوح: كفوا عن الحديث واتصلوا بالإسعاف قبل أن يموت الرجل بين أيدينا.
في المشفى تحسنت حالي، وفهمت من الممرض الذي كان يعودني، أن كلاباً شاردة هجمت عليّ وكادت، لولا لطف الله، أن تقضم لحمي وتشفط شحمي، فشكرته سبحانه على نجاتي، وقررت في داخلي أن أهجر بارودتي وضروبي.
أمضيت في المشفى نحو ساعتين، ثم حملت نفسي وعدت إلى البيت. اتصلت برئيس البلدية وحكيت له ما جرى وطلبت منه أن يمنحني أسبوعاً من إجازتي السنوية، فوافق الرجل في الحال وتمنى لي الشفاء العاجل، ولم أشأ إخباره أنني قررت هجر بارودتي وضروبي، وأن عليه أن يجد مستخدماً غيري ليقوم بهذه المهمة.
في البيت، وفيما كنت ألملم بقايا فرحتي بالنجاة، تذكرت كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لمؤلفه العبد الفقير لله رفاعة ابن المرحوم بدوي رافع الطهطاوي، ويقول فيه: إن داء الكلب معروف لسائر الناس بوصفه وعمله الرديئين، وهو يتولد من طبيعة في الذئاب والثعالب والسنانير وخصوصاً في الكلاب، ومتى عض هذا الكلب الإنسان فإن الجرح من عادته أن يلتئم بالسهولة، كأنه غير متسمم، وبعد ثلاثة أسابيع إلى ثلاثة أشهر يُحسّ بالجرح وجع مكتوم، فينتفخ أثره ويحمر ويقيح، ومادته تخرج حارة منتنة محمرة، ويذوق المريض الكآبة والخدر والكسل والبرودة، ويعسر عليه التنفس، ويمسك الوجع أمعاءه ويضطرب في نعاسه، يعطش عطشاً مهلكاً ويقاسي إذا شرب، ثم يعتريه الارتعاد من الماء والمائع، ويبح صوته، ثم يجن ويموت.
بعد أن أغلقت الكتاب وأعدته إلى مكانه في الخزانة، حمدت الله أن الكلاب التي عضتني لم تكن مسعورة، وأن المستشفيات ملأى بمصل يشفي المعضوض، وحمدته أيضاً لأنني لم أعش أيام الطهطاوي، ولن أضطر إلى استخراج الدم من جرح عضة الكلب وغسله بالماء والملح ، ثم كيه بحديدة بعد إحراقها في النار، كما جاء في الكتب القديمة والأخبار.

