You are here

قراءة كتاب عروس عمان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عروس عمان

عروس عمان

كتاب " عروس عمان " ، تأليف فادي زغموت ، والذي صدر عن دار جبل عمان ناشرون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

سلمى :٣٠، يا له من رقم صعب!

سرحت في سقف الغرفة التي ضمتني أنا وليلى منذ طفولتنا. نظرت إليها فوجدتها غارقة في النوم. اختفت تعابير الانزعاج من وجهها الحنطي، وغطت خدودَها الوردية خصلُ شعرها الكستنائي ذي التسريحة الجديدة المعدَّة لحفل اليوم.

تنهدتُ ونهضتُ من فراشي. اقتربتُ من ليلى، وطبعتُ قبلة على جبينها. همست:

”آسفة“.

كنت أشعر بضيق فظيع، كأني مخنوقة، وكأن كلمات جدتي مشرط اخترق كل دفاعاتي وكل أقنعة الثقة بالنفس التي حضَّرتُها لتلك المناسبة. جهزتُ نفسي للأسئلة المعتادة وللمواقف المحرجة وحتى للتعليقات المستفزة، لكنِّي فشلت بسبب طلقة طائشة خرجت من فم جدتي.

لم أستطع حبس دموعي. ركضت أختبئ بين جدران غرفتي. لمُتُ نفسي، وعنَّفتها. ليس لضعفي فقط، إنما لأنانيتي أيضًا.

كيف أنسى فرحة ليلى وأغرق في هواجسي؟ كيف لي أن أحزن في حفلة أختي؟ أيحقُّ لي أن أضعف أمام أوهامي في يوم تتطلع هي فيه بشوقٍ نحو مستقبلها؟ لكنِّي رأيت تلك النظرة في عينيها، فأيقنت بأن رصاصة جدتي دوت في أذنها أيضًا. فتحتْ عينيها على مشهد ألعبه أنا يجسد مخاوف قد تكون بدأت في ذهن فتاة في عمر ليلى. ’’تبوروا إنتو الجوز‘‘. كم هو حقير هذا التعبير الذي اختزلنا نحن الاثنتين في حبة فاكهة لم تجد من يقضمها!

٣٠، يا له من رقم صعب! أراه رقم موت. موت أول للفتاة في مجتمع ينتظر بلهفة أن يدمغ بناته بلقب ’’عانس‘‘.

ترعبني تلك الكلمة!

يبدأ العد التنازلي بعد التخرج في الجامعة- أحيانًا قبل ذلك- وتتسابق النساء مع الزمن نحو عش الزوجية، كل حسب شطارتها، في مشهد دارويني، البقاء للأصلح. في هذه الحالة لمن يسعفها الحظ بخطف سعيد الحظ. يستمر الماراثون، ويضيق باب العبور مع العد التنازلي للوصول إلى عمر الثلاثين، ليحكم على المتخلفات بفشل اجتماعي، وبدور ثانوي على هامش المجتمع.

أحيانًا أحاول أن أتناسى هذه الحقيقة وأتغاضى عن ذلك الرقم. ولكن هنالك دومًا مَن يصر على تذكيري. آخرهم كانت صديقتي العزيزة منى التي أنهت ’’السباق‘‘ العام الماضي في سنِّ التاسعة والعشرين.

لم تخجل من التنهد والقول أمامي:’’ الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، اتجوزت قبل ما أصير ثلاثين!‘‘ هكذا وبكل وقاحة، وكأن القدر أنقذها من مصير رهيب. متجاهلة أنِّي كنت على وشك طرق عتبة ثلاثيني من دون أي عريس.

أنا لم أكن يومًا الأصلح. البنت الأصلح هنا في عرف الأغلبية هي الأجمل شكلًا. بقدر ما كنت أحاول أن أُظهرَ ثقةً بالنفس من حيث تقبُّلي لمظهري، كنت أحاول التعويض عن طريق إظهار شخصية قوية ومحبوبة. كنت أستعيض عن جمال الشكل بالنكتة وخفة الدم. لكنِّي كنت هشَّة من الداخل، كأن قلبي قطعة زجاج رقيق يتكسر إلى شظايا كثيرة تخترقني وتزيد من جراحي عند كل تلميح أو مقارنة بيني وبين أية امرأة أخرى من ناحيةٍ جمالية.

حاولت التعويض باعتباري أن اهتمام المرأة بجمالها سخافة وقلة عقل، فكنت السباقة في إطلاق النكت وتقليد الآخرين.

أنا أول من سميت زميلة ليلى في الجامعة ’’باربي‘‘. أكيد ليلى ’’فرطت من الضحك‘‘. ومنذ يومها، وكلما اجتمع الثلاثي المرح، وهن يرجونني أن أقلدها.

أختار لونًا أحمر فاقعًا. أبالغ في صبغ شفتي ووجنتي. أفتح قميصي ليَظهر شيءٌ من صدري. أحني رأسي وألوي فمي.

تنفجر ليلى ورنا وحياة في الضحك.

أمشي بدلع مبالغ فيه. أنعِّم من نبرة صوتي وأسبل عينيَّ بينما أقول: ’’عمرررر...بتحبني؟؟‘‘ تلعب رنا دور عمر فتهز رأسها بالإيجاب.

أُمسكُ خصلةً من شعري وأثنيها بدلع، أضعها في فمي. أبالغ في الدلع فأميل بجسمي أكثر فأكثر إلى أن أقع على الأرض، فتصيب أربعتنا ضحكة هستيرية.

أحمل اللابتوب وأجلس في سريري. أنظر إلى صورة ابن أخي الموضوعة بجانب سريري. أقبِّله وأضع الصورة جانبًا. أفتح الإنترنت على صفحة مدونتي ’’الأردنية العانس‘‘.

كنت قد بدأتها تحت اسم مستعار السنة الماضية. أردت أن أتواصل مع الناس، أن أعبر عمَّا أمر به، بصفتي امرأةً أردنية، من مشاعر ومخاوف وأحلام، لا سيَّما في هذا العمر ضمن معطيات المجتمع الأردني من متطلبات وضغوطٍ وواجبات.

أتساءل عادة عن سرِّ هوس المرأة الأردنية بالزواج.

ما الأسباب التي تدفعنا إلى التصرف بهوس بعيد عن المنطق والعقل في أغلب الأحيان؟

منذ أيام وأنا أفكر في مقدار ولعي بعلي ابن أخي. تزوج أخي محمد في سنِّ الخامسة والعشرين، قبل عامين. لم تمض أشهر على زواجه وإذا بزوجته حامل. جاء علي بعد تسعة أشهر ومن يومها وهو مصدر سعادة للعائلة بأكملها، ولي بشكل خاص. طورت تعلُّقًا شديدًا به، فأضحى بالنسبة إليَّ من الأشياء القليلة في حياتي القادرة على رسم ابتسامة على وجهي.

حبي لعلي لم يمنعني من التفكير في نفسي ومستقبلي. أدركُ أن الوقت يمر بسرعة البرق، وأن ساعتي الاجتماعية قد حلت، وأن ساعتي البيولوجية تدق، فأتساءل:

’’هل سيحنُّ القدر عليَّ يومًا وأصبح أُمًّا في أحد الأيام؟‘‘

أكتب في مدونتي:

’’أتقدَّم في العمر فيكبر الخوف في قلبي. تمر السنون بلا رحمة كقطار يسير على جسد طفل هشّ. أتألم بعد كل عام يمضي، فأتحاشى الاحتفال بعيد ميلادي. أغلق هاتفي المحمول، وأنزوي في غرفتي ذلك اليوم. أصارع هواجسي وأبني لنفسي عالمًا آخر من الخيال.

أرى نفسي أحمل طفلة صغيرة أسميها ياسمين. أشمها وأستنشق رحيقها. أضمها إلى صدري وأغمض عينيَّ. أسطِّر لحظاتِ فرح لا توصف في خيالي، تمحوها حقيقة الواقع التعيس.

ما سرُّ هوسي بالأطفال؟

أهو نتيجة طبيعية فرضتها عليَّ الحياة كوني امرأة؟ أم هو انعكاس لواقع اجتماعي يفرض عليَّ التفكير في هذا المنحى؟ أهي حاجة أنانية لإنسان يخاف الموت فيبحث عن خليفة له يحمل سماته وملامحه؟ أم هي طاقة متدفقة من العطاء تنبع من قلب المرأة، لتبحث عن مكان تصب فيه، دورًا من أدوار الطبيعة تلعبه لاستكمال دورة الحياة؟‘‘

أتنهد وأتابع الكتابة:

’’إلى مَن أوجه اللوم في هذه الدنيا التي جعلت حياتي كلها ترتكز على نقطة مركزية يجسدها رجل غير موجود؟

أألعن سندريلا؟ أم سنو وايت؟ أأكره شكسبير لزرع روميو وجولييت في خيالي؟ أو ربما أصب دعواتي على معلمتي في المدرسة لإصرارها على طبع حبِّ قيسٍ لِلَيلى في ذاكرتي؟ أو ربما كان جميل هو الأحق بكل لعناتي؛ فحبه لبثينة بنى قصورًا من الوهم في حبٍّ عُذريٍّ لم يكن ولم يعد موجودًا.‘‘

أشطبُ آخر فقرة ثم أنقر زر الإرسال. أنتظر قليلًا ثم أفتحُ صفحةَ مدونتي مرة أخرى. أنظرُ إلى رقم التعليقات على أمل أنْ يكون هناك من قرأ خاطرتي وعلق عليها. أجد الرقم صفرًا، فأفتحُ بريدي الإلكتروني لإضاعة الوقت. أترك بريدي الإلكتروني بعد دقائق وأعود لأفتح صفحة مدونتي. أجد الرقم صار واحدًا، فأسارع إلى فتح صفحة التعليقات.

هنالك تعليقٌ موقَّعٌ باسم ياسمين.

تقول ياسمين:

’’كم حلمت بأم تضمني إلى قلبها وتحتضنني باللهفة نفسها التي تصفينها في حب امرأة لطفلة لم تلدها بعد! فأنا يا سيدتي يتيمة الأم، عشت طفولتي كلها أتخيلُ شكلها وعطفها وحنانها. تغيَّر شكل أمِّي في خيالي مع الأيام، ولكن حاجتي إلى صدرها الحنون لم تزل تلازمني مع السنين، إلى الآن، وبعد أنْ تزوجت وأنجبت وصرتُ أُمًّا بِدَوري، أنشر عبق رحيقي بين أبنائي وبناتي.

لو عاد بي الزمن إلى الوراء لهرعت راكضةً إلى صدرك، مستجدية عطفك وحنانك، حاسبة إيَّاك الأمَّ التي لم أعرفها سوى في خيالي. كنت أتساءل دوما عمَّا يدور في تفكير أمِّي، هل نسيتني؟ هل تشتاق إليَّ؟ هل تعرفني وتراني من عالمها؟ أم تتخيلني وترسمني في خيالها كما أرسمها أنا؟

اليوم فقط جاءني الجواب، وكأن الخالق عزَّ وجلَّ أعطاها الفرصةَ لترسل إليَّ رسالةً من خلالك. فهي كانت تضمني دومًا إلى صدرها، وتستنشق رحيقي في عالمها الخاص.

الآن فقط استراح قلبي، فشكرًا لك يا أمي. أحبُّك جدًّا وأتطلع بشوق إلى يوم اللقاء.

أمَّا أنت يا سيدتي، فلربما طفلتك ياسمين تنتظر بلهفة يوم اللقاء بك.

سأدعو إليك وإليها، فلعلَّ يوم اللقاء يكون قريبًا.

وشكرًا،

ياسمين‘‘.

كم هي مؤثرة كلمات ياسمين!

للحظات شعرت بأننا أمٌّ وابنتها. كأننا كائن واحد مرتبط بحبل سُرِّيٍّ قطعه القدر ورماه في مجرى الزمن بعشوائية قاسية. فأتساءل إذا كانت هنالك حقًّا وصلة خفية بيننا.

أيعقل بأننا كنَّا حقًّا أمًّا وابنتها في حياة أخرى وزمن آخر؟ أو ربما سنكون كذلك يومًا ما في حياة قادمة؟ أمن الممكن أن يلعب القدر لعبته ليصيب ياسمين في مقتل فتنتقل روحها إلى الطفلة التي قد ألدها أنا؟!

نفضتُ رأسي بسرعة كي أمحو تلك الفكرة المجنونة من عقلي! هل جننت كي أطلق العنان لخيالي، ولو للحظات، للشعور بالرضى لموت إنسان آخر؟

كيف أسمح لمشاعرَ أنانيةٍ كهذه أن تمرَّ بخاطري من دون وعي أو إدراك؟ أشعرُ بحاجة شديدة إلى نَفَس سيجارة. أنهض وأفتح شباك غرفتي، أغلق بابها. أبحث في شنطتي عن علبة السجائر بين علب الماكياج وبُكَل الشعر. أرفعها وأسحب منها سيجارة أشعلها. أقف بجانب الشباك تحسُّبًا لدخول أبي بشكل مفاجئ. أنظر بلا مبالاة إلى الرئة المهترئة على علبة السجائر، وأقرأ بلا وعي عبارة التحذير.

’’التدخين قد يؤدي إلى الموت‘‘.

أسحبُ نَفَسًا عميقًا من السيجارة، ثمَّ نَفَسًا آخر فآخر.

أنتهي من سيجارتي وأعودُ إلى فراشي، أحاول النوم فلا أستطيع. تسيطر عليَّ كلمات ياسمين وكلمات جدتي.

للحظات أوقن أنِّي لن أتزوَّج، فأُصاب بنوبة ذعر. تشتد نبضات قلبي وأجدُ صعوبةً في التنفس.

أُغمض عينيَّ مرة أخرى لأضمَّ ياسمين إلى صدري. تمتد أيادٍ غريبةٌ لتسحبها مني. تصرخ ياسمين وهي تبتعد عني. أصرخ أنا، وأفتح عينيَّ.

أنهض، أشعل سيجارة أخرى ثم ثالثة ثم رابعة، وهكذا حتى يمضي الليل.

Pages