You are here

قراءة كتاب عروس عمان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عروس عمان

عروس عمان

كتاب " عروس عمان " ، تأليف فادي زغموت ، والذي صدر عن دار جبل عمان ناشرون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

حياة : عذاب السنين الماضية يتجسد أمامي في أقبح صورة

عندما تُظلِم الحياة في وجه الإنسان ويفقد الأمل، يصيبه مرضٌ يقعده الفراش. يعيد ترتيب حساباته ويدرك أنه ما دام لديه قلبٌ قادرٌ على النبض؛ وما دامت لديه قدمان قادرتان على السير، فإن نبضات قلبه قادرة دومًا أن تكون مصباحًا ينير خطوات قدميه ليعرف طريقه المرسوم أمامه.

ضَعُفَ جسدي بعد ساعات من المشي في البرد وتحت المطر. أبى أن يستسلم إلى أن وصلت إلى فراشي فتهاوى كجثة هامدة تنتفض بقشعريرة شديدة في محاولة لطرد البرد من عظامي. ارتفعت درجة حرارتي لتصهر أفكاري في وعاء من النار، لتتبخر فقاقيع هلوسة كادت تقضي عليَّ لولا كمادات الماء الباردة التي وضعَتْها أمي فوق رأسي طوال الليل وحتى بزوغ نور الصباح.

قلت لنفسي: ’’ربَّ ضارة نافعة‘‘. مرضي أعفاني من الحاجة إلى التفكير في حُجة أُقنع بها أبي عن سبب عدم ذهابي إلى العمل يومها. لكنَّه لم يكن كافيًا ليعفيني من السهرة التي دعانا إليها صديقه في مزرعته تلك الليلة.

يحب أبي أن نبدو كعائلة سعيدة أمام الجميع. يصرُّ على جمعنا كلنا عند كل مناسبة أو زيارة عائلية أو غير عائلية. أذكر مرة أنِّي قبل ثلاث سنوات رفضت الذهاب معه لزيارة جدتي، فما كان منه إلا أن صفعني صفعة قوية ما زال صداها يرن في أذني حتى اليوم.

تفككت الحرارة عن جسمي بالتدريج كما تفككت غيوم السماء، فانقلب جوُّ عمان الربيعي المتقلب من ماطر إلى مشمس في غضون ساعات.

بدأت أرتاح مع حلول المغيب. نهضت من فراشي ووضعت نفسي تحت دش ماء ساخن. جهَّزت نفسي للسهرة. لبست الجينز الأزرق وبلوزة سوداء تناسب لون بشرتي الحنطية. أخرجتُ حَلَقي الناعم على شكل فراشة ووضعته في أذنيَّ بينما كنتُ أنظر إلى المرآة أمامي لأتأكد من أن مظهري سينال رضى أبي، فهو اعتادَ الاعتراضَ دومًا كلما هممت بالخروج من البيت.

مزرعة ’’أبو جورج‘‘ قرب مدينة مادبا، التي تقع جنوب عمَّان وعلى بُعدِ نحو 35كم منها. مزرعة جميلة اعتدنا زيارتها من فترة إلى أخرى كلما دعينا لتمضية وقت طيب.

تجتمع العائلتان حول النار لشيِّ اللحم. نحضِّر أنا وأمي وأم جورج قطع اللحم ونشكه في أسياخ. نفصل بين قطع اللحم بقطع من البندورة والبصل ثم نسلم السيخ لأحد الرجال ليضعه فوق الفحم. ينشغل أخواي الصغيران باللعب بالكرة، بينما يمضي أبي وأبو جورج وجورج وقتهم حول طاولة النرد. أحضِّر أرجيلة لنفسي وأسرح في الطبيعة حولي. أحاول أن أصفِّي ذهني وأستمتع بهذه اللحظات

بدأ أبي يشرب البيرة منذ لحظة وصولنا إلى المزرعة. اعتدنا رؤيته ثملًا لا سيَّما في مناسبات كهذه. أمي تراقبه من بعيد وتحاول إقناعه بعدم الإكثار في الشرب لكنه لا يكترث لها. عرضَتْ عليَّ أم جورج كأسًا من البيرة مع الطعام. حاولَتْ أمي الاعتراض، لكن أبي صدها بالقول: ’’اتركي البنت تنبسط‘‘. خطفتُ الكأس من يدها وشربتها كالمدمنة غير مكترثة بطعمها المرِّ في حلقي. كنت بحاجة شديدة إلى الخمر مع أني لم أختبر مفعولَه بنفسي من قبل. أردت أن أفقد عقلي كما يفقده أبي ولم تهمني نظرات القلق في وجه أمي ليلتها.

تعب أخواي الصغيران من اللعب. نعسا والتصقا في حضن أمي التي تعبت أيضًا. أبي كان شبه ثمل، ولم يكن في حسابه العودة إلى البيت بعد. جورج أراد العودة إلى عمان لإكمال سهرته مع أصحابه. سألَتْه أمي أن يوصلنا في طريقه وهو لم يمانع. أرادتني أن أعود معهم ولكنِّي لم أرد أن أترك بعد.

أردت أن أبتعد عن البيت لأكبر وقتٍ ممكن. أردت أن تمتد هذه الساعات القليلة إلى الأبد، وبذلك لا أحتاج إلى العودة لمجابهة المشكلة التي وقعت فيها. تمنيت لو أنها تنتظر فنعود جميعنا معًا؛ فأنا قلقة من العودة مع أبي وحدنا، لكن مفعول البيرة منعني من اتخاذ القرار الصائب.

غادرنا بعدهم بساعتين: الواحدة بعد منتصف الليل. وقفت على باب المزرعة أنتظر أبي وهو يودع أبا جورج وأم جورج ويشكرهما على السهرة الجميلة. اقترب مني ونظر إليَّ نظرة عادت بي سنين إلى الوراء- نظرةً كنت قد دفنتها مع الذكريات الأليمة الأخرى المرتبطة بها. حسبتها اختفت من حياتي بلا عودة مع أنها كانت تصرُّ أن تظهر في أحلامي ككابوس مخيف يعيد تكرار نفسه بتردُّدٍ غريب.

اقترب منِّي وهمس في ’’أذني: شو كبرتِ؟ وصرتِ تشربي كمان؟‘‘ شعرت بالغثيان من رائحة الخمر المنبعثة من فمه، وأشلَّني الرعب فلم أعرف كيف أرد عليه. بدأ قلبي يخفق بسرعة كبيرة كأنه يجري عوضًا عني. يحاول الهرب، وكأن ذاكرته أكثر وضوحًا من ذاكرتي، ففعل ما اعتاد فعله في تلك الأيام. ’’بتحبي أعطيكِ درس سواقة؟‘‘ هززت رأسي بالموافقة حاسبة أنِّي وجدت مخرجًا للموقف المحرج.

للحظات، أقنعت نفسي بأنِّي ربما كنت قد أخطأت قراءة نظراته، أو أنها قد مرت بلحظةٍ خاطفة وستدفن مرة أخرى، فهو تغير في الأشهر الماضية بشكل كبير.

لكن للأسف، حدسي لم يخطئ. كان عليَّ أن أتوقع أنَّ الماضي لم ينته بعد، وأن عذاب السنين الماضية سيتجسد أمامي بأقبح صورة. وجب عليَّ أن أتوقع أن تلك الليلة ستقضي على ما تبقى لي من شعور بالأمان، وتردني امرأة تائهة مطحونة بأرجل الدنيا وممزقة بأضراسها.

كأن القدر يشاركه اللعب، والقمر يتآمر معه. كانوا جميعًا أطراف لعبة شيطانية أنا ضحيتها.

كانت طريق مادبا-البحر الميت معتمة، مظلمة، بلا مصابيح إضاءة. اختفى ضوء القمر يومها وتوارى عن الظهور. يبارك له جريمته أو ربما خجلًا من أن يكون شاهدًا عليها. وحدي معه. أقود بصمت وأردد الدعاوي في قلبي إلى الله، علَّه يكون حليفي ليلتها فتمر الليلة بسلام. لكن الله لم يكن ينصت. اختفى هو أيضًا وتركني أواجه مصيري.

كنت وحيدةً تمامًا عندما بدأ أبي بتمرير يده على فخذي. ’’بابا شو بتعمل؟“ سألتُه بنبرة يشوبها الرعب وقد أيقنتُ وضعي الحرج. نهرَني بصوتٍ حازم وأمرني أن أكمل قيادة السيَّارة وكأن شيئًا لم يكن، وكأن يده تنتهك حرمة جسدٍ غير جسدي. مال بجسده على الكرسي بجانبي وامتدت أصابعه لتتحسس نهديَّ.

غاص في المشهد يتلذذ بجسد عشيقة افتقدها لسنين مضت، فلم يدرك تلك النظرةَ على وجهها- نظرةَ يأسٍ لامرأة أظلمت الدنيا أمامها فوجدت في الموت ملاذها الأخير.

مرَّت سنون وأنا أعِدُ نفسي يوميًّا بأن لا أسمح له بأن يلمسني مرة أخرى. وها هو ذا يبسط سيطرته عليَّ كما كان يفعل دومًا. لكنِّي اليوم أمام عجلة القيادة، وإن كان سيدمر كل ما بنيته لأقنع نفسي أنِّي أستطيع أن أعيش بوصفي إنسانًا طبيعيًّا، فإنِّي أفضِّل الموت على ذلك.

لمحت شاحنة كبيرة قادمة بسرعة في الاتجاه العكسي. وبلحظة خاطفة، اتخذت القرار. ضغطتْ قدمي دواسةَ البنزين، لفت يدي عجلة القيادة في اتجاه الشاحنة، ونطق فمي الشهادتين.

هو استوعب الأمر بسرعةٍ غريبة لا تتناسب مع كمية الخمر التي تجري في عروقه. انقض عليَّ بوحشية يحاول السيطرة على المقود بين يدي. هجم عليَّ بكامل قوته، وأحكم السيطرة. مدَّ قدمه فوق قدمي وضغط على البريك بحركة حاسمة فصلت كخيط رفيع بين الحياة والموت.

صمت للحظةٍ ثم اهتاج بعصبية لم أرها منه من قبل، وقد كنت قد رأيت منه الكثير. امتدت يده لتصفعني مرة وأخرى وأخرى قبل أن يسحبني من مكاني خلف عجلة القيادة ويدفعني إلى الأرض وهو يشتمني بألعن الشتائم.

مرَّت دقائق قبل أن يهدأ. ركبتُ إلى جانبه معتقدة أن ما حصل قد قتل أية رغبة في نفسه تلك الليلة. توقعت أن يغيِّر مسار الطريق ويعود بنا إلى البيت، ولكن ولدهشتي استمر في الطريق المعتم نفسه إلى أن وجد شارعًا فرعيًّا ترابيًّا على جانب الطريق. سلكه وهو يتمتم بكلام غير مفهوم.

أطلقت العنان لقدميَّ في اللحظة نفسها التي أوقف فيها السيارة. قررت الهروب كآخر أمل لي بالنجاة. ركض خلفي يحاول اللحاق بي وهو يطلق وابلًا من الشتائم والتهديدات. وقف فجأةً يلتقط أنفاسه وصرخ يتوعَّدني بأنِّي إذا هربت، فإنه سوف يقدم شكوى بحقي عند الشرطة لتعثر عليَّ وتعيدني، ومن ثم يدعي بأنِّي أخرج مع رجلٍ آخر، فيقتلني بداعي الشرف.

لم أدرِ ماذا أفعل. أعرف جيدًا أنه قادر على فعل ذلك. توقفت على مسافة قليلة منه أحاول أن ألتقط أنفاسي أنا أيضًا. شعر باستسلامي فلعب آخر ورقة بيده: أمي. ”اهربي زي ما بدك، أمك في البيت، وراح أعمل فيها إللي كنت بدي أعمله فيكِ وأكثر.“

حاولت أن أستعطفه: ’’بابا ليش بتعمل هيك؟ أنا حياة...بنتك‘‘. نظرتُ إلى عينيه علَّني أُوقظُ فيهما ذرة إنسانية في قلبه.

اقترب مني وحاول أن يشدني إليه، أبعدته بقوة وتابعت: ’’بتتذكر لما أنا انولدت؟ إنتَ... إنتَ... سميتني حياة... حياة... أنا حياة طفلتك‘‘. لكنه لم يكن يسمع ليتذكر. كان كل همه أن يجد طريقة لإخضاعي والسيطرة عليَّ.

اقترب منِّي أكثر فأكثر إلى أن استطاع الإمساك بي، ثم بطحني على الأرض. هجم عليَّ بكل قوته يمزق ملابسي، يعريني، بينما أقاوم وأصرخ وأصارع. كتم صرخاتي بأصابعه وأشلَّ حركتي بجسده. لم يتبق لجسدي من ردة فعل سوى الدموع التي تساقطت بحزن على ترابٍ شَهِدَ أبشع وجهٍ رأيتُه أنا لهذه الدنيا.

توقف فجأةً وكأن الكابوس قد انتهى وكأن شيئًا لم يكن. دعاني إلى السيارة وقاد بي إلى البيت...

وهو صامت.

Pages