كتاب " عروس عمان " ، تأليف فادي زغموت ، والذي صدر عن دار جبل عمان ناشرون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب عروس عمان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عروس عمان
رنا : ما كنتُ لأتركَه يومَها
تطورت علاقتي بجانتي بسرعةٍ غريبة. مرت أسابيع لم نناقش فيها طبيعة العلاقة بيننا. نستمتع بالحديث والتقرب بعضنا إلى بعضٍ دون أن نضع علاقتنا في أي إطار. مع الأيام ازدادت الساعات التي نُمضيها معًا داخل أسوار الجامعة، وازداد يقيني أنه مع كل ساعة أُمضيها بجانبه أتعلَّقُ به أكثر.
بدأت أخبار علاقتنا تنتشر بين الطلاب في الجامعة. الكل يقتله الفضول، والكل يشارك في النميمة.
وصل الخبر إلى ابن عمي في كلية الطب، فوجدها فرصة لإثبات رجولته وفرض عضلاته عليَّ وعلى جانتي. في يوم وليلة تحولت علاقتي به من علاقة أُخوَّةٍ وصداقة إلى علاقة مجرم ومحقق يحكمها الكذب والأسرار.
جمعني أنا وجانتي على فنجان قهوة. لبس قناعَ ابن العم، الرجل، الحامي لشرف العائلة- قناعًا بدا كبيرًا عليه ولا يناسبه في هذا العمر.
أنا لم أرَ هذا الجانب فيه من قبل. نحن في العمر ذاته تقريبًا. الأحاديث الكبيرة حول الشرف بعيدة عن اهتماماتنا. أما اليوم فشعرت بأنه شخص آخر، غريب عني، وهو يرسم الخطوط الحمر لمجتمع أعطاه الحقَّ والقوة ليقرر لي اختياراتي العاطفية.
يدَّعي أن من حقه أن يتدخل في أشد الأمور شخصية في حياتي اليوم، بالرغم من وجود رجل آخر إلى جانبي- رجلٍ ملك قلبي وكياني. رجل جذبني إليه عناده ورجولته. رجل أراه اليوم محشورًا في زاوية صعبة، لا يستطيع الاعتراض ولا التمرد على كلام العشائر والشرف.
إن كان يريد أن ينتمي إلى عالم الرجال، فعليه أن يلعب لعبتهم. لقد كانت لعبةً- لعبةً ذكورية، يتنافس فيها كل منهم للسيطرة على إناث القطيع. حبي لجانتي ما هو إلا تعدٍّ من قبل رجلٍ على أملاك رجلٍ آخر. إهانة للذكور في عائلتي. يجمعهم كما يجمع المغناطيس دبابيس الحديد، حتى ولو فرقتهم سنون من الخلافات حول الميراث.
فأنا أنثى، والأنثى تحمل شرف العائلة، وعليها حمايته. لكنها قاصر، لا تؤتمن عليه وحدها. على جميع ذكور العائلة أن يبقوا آذانهم صاغية وعيونهم مفتوحة، وأن يرسموا خُطَّةً تملي عليها طريقة التصرف كي لا تقع في الخطأ.
الشرف هش، سهل الخدش، لكنه مرن يتشكل كقطعة العجين. يمطُّه الذكر كما يشاء كأداة تسهل عليه التحكم في الأنثى. يفرض عليها شيفرة اللباس الخاصة، ودليل الحركة، وأوقات الخروج، واختياراتها للأصدقاء ذكورًا كانوا أم إناثًا.
اليوم كان علينا، أنا وجانتي، أن نطيع، ولو ظاهريًّا.
اعتذر من ابن عمي، ووعده بالابتعاد عني. لكنْ رفضتْ مشاعرُنا الاعتذار ومطاوعة الغبن، كذلك عقلُنا وكيانُنا. نعلم أننا أضعف من أن نواجِه، ونرفض أن يتأذَّى أيٌّ منَّا. الحل الوحيد أمامنا كان أن نحذر أكثر في الجامعة، وأن نفرض قيودًا أكبر على علاقتنا كي نخفيها عن الجميع.
نلعب بالنار، وهي تلعب بنا. القيود أصبحت كالحطب تزيد من اشتعال مشاعرنا. نمضي أوقاتنا في الجامعة معًا بوجود طرف ثالث كي تظهر علاقتنا للناس على أنها علاقة صداقة وليست علاقة غرام. حياة وليلى أصبحتا الطرف الثالث في العلاقة، لا تكتمل إلا بوجود إحداهما، فإن كان عليهما المغادرة، كان علينا الابتعاد بعضنا عن بعض.
بتنا نحلم بلحظات خلوة نمضيها معًا، فنخطط لها كأننا نخطِّط لفرح.
كانت عائلته تملك شقة أخرى في ضاحية الرشيد قريبة من حرم الجامعة. لم تكن الشقة مؤجرة بعد، فكان جانتي يقترح أن نلتقي فيها. كنت أرفض في البداية. أرفض لخوفي من أن يرانا أحدٌ معًا ويخبر أحدًا من عائلتي. أرفض أيضًا لخوفي من الخلوة به، فأنا أعلم جيدًا مقدار انجذابي إليه وضعفي أمامه، ولا أثق لا بقدرتي ولا بقدرته على مقاومة الرغبة في نفوسنا...
إلى أن جاء ذلك اليوم.
كنا نقف في ساحة كلية التجارة، أنا وجانتي وليلى وحياة. الساحة تزدحم بشدة بين المحاضرات؛ لأن جميع الطلاب يخرجون من الصفوف ويتجهون إلى أخرى. وبينما كنتُ منشغلة بالحديث إلى جانتي باغتَتني لمسةُ طالبٍ وقح مرَّ من خلفي وهو يمشي مع اثنين من أصدقائه. مدَّ أصابعه وضغط على مؤخرتي بحركة أرادها خاطفةً واستمر في المشي كأنَّ شيئًا لم يكن.
انتفض جسمي بغير إرادة فانتبه جانتي وسألني:
’’شو صار؟ شو عمل؟“
أعلم جيدًا أنه من الأفضل أن أكبت غيظي وأنكرَ الاعتداء الخاطف على جسدي، فهذا أفضل خيار أمامي؛ لأن إخبار جانتي يعني امتحانًا لرجولته- امتحانًا سيدفعه إلى العراك مع هؤلاء الطلاب الوسخين قد يتأذى منه.
’’ولا شي، ما صار شي“.
أنكرت وأنا أعلم أنه لن يصدقني فلُغة جسدي تفضحني، وهو لم يكن ينتظر جوابًا مني، فبِثَوانٍ قليلة كان قد عرف ما عليه فعله. تركني مرعوبة بينما أنظر إليه يسرعُ باتجاه الطالب ويدفعه إلى الأرض بقوة. تسمَّرتُ في مكاني مشلولةَ الحركة بينما أتابع سَيل اللكمات المتبادلة بين جانتي والطالب.
مباغتة جانتي للطالب أعطته قدرًا من التفوق في البداية، فنجح في توجيه ضربات قوية إلى وجهه، لكن صديقَي الطالب دخلا في العراك بسرعة، فأضحى جانتي مرميًّا على الأرض غير قادر على حماية نفسه من سيل ركلات الصعاليك الثلاث.
اجتمع عددٌ غفير من الطلاب حول المعركة. بعد جهد كبير استطاعت مجموعة من الشباب فك الاشتباك وتخليص جانتي. ثوان قليلة وبدأ أصدقاء جانتي بالظهور والتجمع حوله.
اعتاد شبابُ الشركس في الجامعة الدفاع والوقوف بجانب بعضهم بعضًا. كذلك شباب العائلات الكبيرة وتلك العائلات من المدينة نفسها. فرصة للجميع لفرض عضلاتهم وإثبات ولائهم للقبيلة أو العشيرة التي ينتمون إليها.
فجأةً أصبحت هناك جماعتان من الشباب تقفان بتَحدٍّ تتوعَّد كلٌّ منهما الأخرى. أيقنتُ حينها أني سأكون سببًا في مجزرةٍ قد يروح ضحيتها عددٌ من الشباب- مجزرةٍ على الأغلب ستكون سمعتي هي ضحيتها الكبرى.
تقطع قلبي ألمًا لمنظر الجروح والكدمات في وجه جانتي وأنحاء جسمه، لكنِّي دست على مشاعري لعلمي أنِّي يجب أن أتصرَّف بسرعةٍ وقبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.
اتجهتُ بحزم نحو جانتي وهددته قائلةً:
’’إذا ما بتوقف هذا الحكي الفاضي هلأ وتحل المشكلة، ما راح تسمع صوتي بعد اليوم. أنا مش مستعدة أخسر سمعتي مشان أي حد“.
فهم جانتي رسالتي. تصرَّف بحكمة رفعته درجات في عينيَّ. انفضَّ الجمع بسرعةٍ كما التمَّ، وكأن شيئًا لم يكن. لكن مشاعري تجاه جانتي تأجَّجت كما لم أعهدها من قبل.
خليط من المشاعر سيطرَ على قلبي: شعور أنثى جذبتها هبة رجلها للدفاع عنها. شعور أنثى احترمت كبته لغيظه وتصرفه بحكمة رضوخًا لطلبها. شعورٌ حادٌّ بالذنب لأنِّي كنت سبب ضربه وجروحه، وكذلك ألم نفسي يصيبني كلما تأوَّه من الألم في أنحاء جسده.
ما كنت لأتركه يومها في هذه الحالة لأي سبب. وجدت نفسي أرافقه إلى الشقة الفارغة دون تفكير. كان كل همي أن أبقى إلى جانبه وأن أساعده في تضميد جراحه. شفة مشقوقة، أنف ينزف، ورضوض في مختلف أنحاء جسده. التقطت كيس القطن وبدأت أمسح جروحه.
تساقطت دموعي فامتزجت بدمه في أول لقاء بين جسدَينا. اصطبغ القطن الأبيض بحُمرة دمه كما اصطبغت نفسي برغبة شديدة لحضنه وضمه إلى صدري. مدَّ يده يتحسس أناملي وهي تمرِّر قطعة القطن الناعمة على شفته. أوقفها، وحرَّك شفتيه لتقبيلها- قبلة ثم أخرى ثم أخرى.
حركتُ يدي نحو خده لأبعدها عن قبلاته. نفسي تتوق إلى تلك القبلات فلا ترضى أن تتلقَّفها في الكف، فهنالك ما هو أشدُّ استحقاقًا وأكثر حاجة إليها. ضممته إلى صدري ثم رفعت رأسه لأنظر في عينيه. لحظة خاطفة امتزجت بعدها شفتانا في عناق مقدس رفعنا من الأرض إلى الفردوس، وانتشلنا من جحيم الألم إلى جنة النشوة.