سابع ايام الخلق ـ هي احدى أهم روايات عبد الخالق الركابي وهي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصة نساها النقد في الخارج ولم يتعرض لها احد كما لو ان الركابي متهم بإرتكاب جريمة العيش في وطن تقلصت حدوده الى مجرد كرسي متحرك يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الازم
أنت هنا
قراءة كتاب سابع ايام الخلق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
كتاب الكتب - سِفر الألف
لعلّ كلمات (شبيب طاهر الغياث)، سادس رواة المخطوط، هي خير مدخل لروايتي هذه؛ ففي ختام الصفحات التي كتبها إليّ لخّص جهده وجهود مَنْ سبقه من الرواة بعبارة بليغة أشبه ما تكون بحكمة:
- (إنها محاولات تبدو كأنها لا تمتُّ إلى متن الراووق بصلة، بيد أن مرور الزمن وحده هو الكفيل بإدخال تلك المحاولات في ذلك المتن)·
لقد تمّ العثور على أهم أوراق (السيد نور)؛ وبذلك اكتمل متن جديد للمخطوط، متن غريب هو مزيج من حكايات شفهية - ما زال رواة (السيرة المطلقيّة) المحترفون في (محافظة الأسلاف) يقصّونها على أنغام الرباب - ونصوص عرفانية، وكتابات أدبية ذات طابع تراثي بحت·
ستة أقسام يكمل بعضها بعضاً - فضلاً عن قسم سابع هو (هذا) الذي تتشكّل حروفه وكلماته تحت عينيّ القارئ - أفرغتُ ثلاثة (كاسيتات) منها بخط يدي على الورق، وثلاثة أخرى، مكتوبة بخطوط أصحابها أنفسهم، ها هي أمامي على سطح مكتبي في غرفة (الأُرسي) في الطبقة الثانية من بيتي القديم القابع في نهاية زقاق تكاد شناشيل بيوته المتقابلة تتعانق تحت شريط ضيّق من السماء تشابكتْ خلاله أسلاك الكهرباء والهاتف وحبال الغسيل وهوائيات أجهزة (التلفاز) المرفوعة كرايات استسلام فوق - ولا أقول تحت - بصر أي راوٍ لا يزال يستمدّ من وتر ربابه المرهف القدرة على المكابرة والصمود في سرد الحكايات!
لقد أسدلتُ الستائر دون مدينة (الأسلاف)، مدينة البشر والإسمنت والحجر، لأفتح بمداد قلمي آلاف الستائر والنوافذ على مدينة (الأسلاف) الأخرى، مدينة الحروف والكلمات، المدينة التي أعاد تشييدها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة وسطراً سطراً هؤلاء الرواة الستة: ثلاثة منهم شيّدوها بأصوات ورثتْ أحزان سلسلة رواة تناقلوا الحرفة شفهياً أباً عن جد - حتى أن عينيّ واحد منهم اغرورقتا، لحظة التسجيل، بالدموع وهو يسرد حادثة مضتْ عليها عشرات الأعوام! - والثلاثة الآخرون شيدوها كتابياً: الرابع منهم بالريشة، والخامس بقلم (القوبيا)، والسادس بالحبر، وها أنذا سابعهم أترك للقارئ مهمة اكتشاف ما سأقوم به خلال الصفحات القادمة!
تراني أعمل خارج متن (الراووق)؟
لا ضير في ذلك؛ ففي كلمات (شبيب طاهر الغياث) سأجد العزاء، تاركاً للمطبعة - لا للزمن هذه المرة - مهمة إدخال ما أكتب في ذلك المتن؛ فلولا سريان مدادي في هذه المفردات لن يكون لهذه الرواية وجود· وعلى كل حال أيسعني سوى الاعتراف بأن كتابة رواية ما ليستْ، في واقع الأمر، إلا ضرباً من حب الذات؟ يحب الروائي أن يتجلّى في مرآة الوجود؛ فيبدأ في خلق شخصياته الروائية، وهنا يتلكأ قلمي لحظات قبل أن يخط على بياض هذه الصفحة اسم ورقاء؛ فبرغم تعدد الخيوط التي قادتني إلى هذه الرواية يبقى ذلك الخيط الذي شدّني إلى ورقاء أكثرها انسجاماً مع لحمة هذه الرواية وسداها؛ فالكتب وحدها قادتني إلى ورقاء!
ثمة قول اعتاد صديقي الشاعر ترديده: وهو أن العثور عليّ في مدينة مثل مدينة (الأسلاف)، التي تكاد تضيق بقاطنيها، ليس بالأمر العسير؛ إذ يكفي المرء تتبع مكتبات المدينة الموزعة في شتى شوارعها وأزقتها للعثور عليّ في واحدة منها!
ذلك هو الصواب عينه؛ فمن يماثلني حباً وتعلقاً بتلك المكتبات؟ لقد قضيتُ فيها اوقاتاً، على مدى أعوام من عمري، لو استطعت إحصاءها لكان مجموعها كبيراً لا يضاهيه سوى مجموع الأوقات التي أقضيها بين جدران غرفة (الأرسي) هذه، وأنا منهمك في كتابة رواياتي·
لقد عرفتها واحدةً واحدةً، ورافقتُ نموّ بعضها وهي لا تتخطى بضعة كتب يعرضها صاحبها على الرصيف - حيث كان في وسعي، حينما تبلغ أزمة إفلاسي الأزلي الأبدي ذروتها، دسّ بعض كتبي بينها - إلى نصب أول كشك خشبي - فأضحى في وسعي اقتناء الكتب دَيناً، فضلاً عن كوب شاي ساخن يجلبه لي صاحب الكشك بنفسه - انتهاءً بامتلاك مكتبة؛ إذ استبدل صاحبها قنينة مشروب غازي بكوب الشاي القديم، متقبلاً برحابة صدر مناوراتي الدورية التي لا أقوم بها عادة إلا في الأسبوع الأخير من الشهر، والتي تتخللها أنصاف جمل، يحمّر وجهي معها ويصفّر، تنتهي باستدانة بضعة دنانير تجد سبيلها، من جرار المكتب العامر بأكداس النقود، إلى جيبي الخالي دائماً···
إنها مكتبات قد تكون صغيرة دون لافتة، لا تشغل أكثر من زاوية أو أسفل سلّم إحدى العمارات، أو تكون كبيرة ذات واجهة واسعة تحمل أسماء رجال عريقين في (تجارة) الكتب، أو تكون (متنقلة) تتمثل بحقيبة بائع متجول حافلة بكل (ما لذّ وطاب) من الكتب بطبيعة الحال!
مكتبات انحدرتُ إليها بوساطة سلالم رطبة لأزجي ساعات بين رفوف الكتب، سامعاً خفق خطى السابلة في الأعلى، لا يؤنسني في وحدتي سوى جرذان مذعورة تمرق من بين الأصابع على غير توقع لتختفي وهي تصيئ، مكتبات ارتقيت إليها سلالم، تتعقبني المدينة بضجتها المتصاعدة مع الغبار والدخان، مكتبات شعرتُ، وأنا في سراديبها، باهتزاز الأرض بفعل هدير المطابع، ومكتبات أشرفتُ من نوافذها على عشرات المآذن وهي تدوّي مجتمعة باسم الله·
إنها مكتبات قد تتباين فقراً وغنىً، أناقة وقدماً، لكنها تنسجم في أمر واحد هو تلك الرائحة الحميمة، رائحة الورق وحبر المطابع التي ما أكاد أشمها حتى أحني رأسي إجلالاً؛ فوراء كل كتاب ثمة الكثير من الحرمان والجوع والصبر والجَلَد الذي بُذل ليرى ذلك الكتاب النور·
هكذا مضيتُ في التنقل بين تلك المكتبات عاماً بعد عام لأنتهي، في آخر الأمر، بمكتبة المتحف، وكأن تلك المكتبات كانت أشبه بـ(المقامات) التي يرتقي إليها (السالك) في طريق التصوف - وما الكتب التي كنت أقع عليها فيها إلا (الأحوال) التي تنزل بالقلب كلمع البرق فتورثني القبض والبسط أو الخوف والرجاء - ليحصل لي (الكشف) في مكتبة المتحف حيث رفعتْ ورقاء بحبها حجاب الظلمة عن قلبي: فاطلعتُ على كل أسرار (الراووق) ومعانيه!
التقيتها أول ما التقيتها في القاعة (النورية)، ضبطتها منفردة بنفسها، تستعرض ملابسها في واحدة من تلك المرايا الطويلة الضيقة التي تزدان بها الجدران· بدتْ مستغرقة في تأمل أناقتها أكثر من جمالها؛ فشحّة الضوء هناك لا تسمح بالتدقيق في ملامح الوجه، تقوم بحركات ووضعيات إلى مختلف الجوانب· وحينما التقت نظراتنا في المرآة استدارتْ نحوي مفغورة الفم ذعراً - اعترفت لي فيما بعد بأنها حسبتني لحظتئذ شبحاً، وهو ظن يسوّغه الجو شبه المعتم المفعم برائحة البخور والحنّاء، كما يثيره اقتران تلك القاعة باسم (السيد نور) من أصداء - لكنها سرعان ما تداركتِ الأمر؛ فابتسمت خجلى، مغطية فمها بمنديل صغير كانت تحمله في يدها، وتخطتني مطرقة الرأس، فسارعتُ إلى سؤالها عن الطريق المؤدي إلى المكتبة؟ وحينما التفتتْ نحوي مستوضحة، لم أجد مفراً من أن أسوّغ سؤالي بأنني ضيّعتُ طريقي، وأضفتُ وقد أعدتني بارتباكها: