رواية "طبيب تينبكتو" لعمر الأنصاري، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت أواخر سنة 2011، هي رواية تستمد وقائعها من أحداث حقيقية حصلت بالنصف الثاني من القرن العشرين، توحي بأنها تحمل تجارب شخصية مر بها الكاتب أو أقاربه ومعارفه.
أنت هنا
قراءة كتاب طبيب تينبكتو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
- نعم هذا صحيح·
- ماذا ستفعل·· هل تنوي تعلم الرعي؟
- لا أدري·· سمعت أمي تقول لأبي إنها تريدني أن أدرس النحو والفقه·
- تبتسم·· إن أصعب ما في الحفظ ليس حفظ القرآن·· بل مقامات الحريري وشرحها!
لم أجبها، إذ لم أعرف ماهي المقامات بعد وإن سمعت عنها القليل· وغاية معرفتي أن الجميع بعد حفظ القرآن يحفظون الأجرومية ومتن الأخضري· والمعلقات السبع·
تركت الفتاة·· التي أشعلت الغضب في صدري لتباهيها بذاكرتها في الحفظ· لكن، ولأنها حفيدة عالم وأمها حافظة لكل المتون الموجودة في صندوق أبيها وجدت لنفسي العذر·· وإن كرهت منافسة الفتيات في أي شيء·
عدتُ في المساء مع أول فوج للرعاة، وعرفانا لسماح والدتي لي بالذهاب·· جلبت لها هي وتين الخير ما استطعت حمله من ورق السدر، الذي تنظف به والدتي شعرها وشعر أختيَّ حليمتو التي تكبرني بعشرة أعوام، وفاطمة التي أكبرها بعام واحد·
سعدت كذلك الأمَة تين الخير بأوراق السدر التي أحضرتها لها وتستخدمها بطرق شتى لعلاج كل الأمراض والأسقام· كما سعدت أختاي بثمار النبق التي جلبت لهن·
كانت والدتي وتين الخير قد بدأتا في طهي حساء الدخن بالحليب حين وردت البيت، ولم تبق والدتي شيئا من لحم ثور أمرت بذبحه للتصدق به كاملا بمناسبة استظهاري للقرآن· سألت والدتي التي لا أتذكر حصول سوء تفاهم بيني وبينها عن السبب، قالت لي الصدقة لا يجوز تذوقها، يجب أن تكون كاملة خالصة لتؤتي ثمارها·· فوافقتها كالعادة·
لكني رغم ذلك، توجهت لأَمتنا تين الخير التي تحظى وأبنائها بحصة ثابتة في كل ما يذبح، شأنهم شأن جميع موالينا حيث سأجد بقية من لحم الثور المنسوب إليّ· ولم يخب ظني حين وجدتهم قد انتهوا من إعداد نصيبهم وعلى رأسه الرقبة التي تكون من نصيب الموالي؛ إذ جرت العادة أن نُجزِّء الوليمة أو الصدقة حسب مقامات الناس، فينال العالم أو الفقيه الذراع والكتف، والمولى الرقبة، والنساء الظهر· وقد حاججت والدتي التي وبخت فعلي، بأن ما أكلته لا يعتبر تعدياً على الصدقة بعد أن أصبح إلى غيرها·
أمي التي تعلّمني الحياة، هي قريبة والدي من جهة أمها، أخذتُ منها لونها الفاتح·· واستدارة وجهها في الشبه كما يقول لي الناس، في حين استأثر والدي برأسي وأنفي وعيني الضيّقتين في الشبه· كانت من أزهد الناس في الدنيا، لم تحب شيئا سوى أهلها وصلة الرحم· في حين أن أبي، الذي حفظت القرآن على يديه أنا وعدد قليل من أبناء أقاربه، تركته في شأنه بعد أن عقلت الدنيا؛ إذ لا يفارق القرآن شفتيه، فتجنبته إلا لضرورة· فرغم كونه كما شهد له الناس أفضل معلم قرآن، رفض أن يقيم حلقة قرآن دائمة للحي خشية أن يأتي الطلبة إليه بأجرة التدريس في ظل وجود من هو بحاجة إليها·
استغنى هو وأمي بأبقار قليلة في وقت تباهى الناس فيه بعدد أبقارهم، واضطر إلى امتلاك العبيد الذين نتوارثهم حين عرف أن لا مكان يذهبون إليه· سألته يوما من أين أتيتم بالعبيد يا أبي قال: سامح الله من اشتراهم، ومن غنمهم في الحرب·· وأورثنا إياهم
بيد أن أهلي ليسوا وحدهم في هذا الزهد والورع، حيث كان هذا حال آخرين كثيرين من أهلنا ورثوا قيام الليل والتبتل والعبادة، مثل ولي شاطئنا الشيخ الزروق الذي ابتعد قليلا عن الناس في حينا الشرقي حتى يصفو قلبه لمناجاة الخالق·· ويبتعد عن القيل والقال·
حيّنا الغربي يتكون من ثلاث وسبعين خيمة، كلها مصنوعة من جلود بقرنا، فيما عدد خيم الحي الشرقي تبلغ النصف على التقريب كما قال عمي·
تتالت أيام السعادة عليّ حين أنهيت حفظ القرآن، حيث سأمضي أيام لهو إلى حين صدور قرار والديَّ بما يجب عليَّ استئناف دراسته بعد القرآن·
اليوم، في الصباح حين أتممت الصلاة منعتني أمي من العودة إلى النوم وأمرتني باللجوء إلى خيمة عمي بعد أن قررت نقض خيمتنا بمساعدة تين الخير·· لتجديد جوانب منها ولتوسعتها·· بعد أن حصلت على جلود جديدة· فيما أمرت موالينا أبناء تين الخير الخميس والجمعة بجلب أوتاد·· وأعواد سقف جديدة·
أنهيت الإفطار مع عمي الماهر في صناعة الخبز المدفون في حمم الرمل، أخذت ما بقي من الرغيف الكبير ومددت يديَّ في كيس صغير لعمي يحفظ فيه التمر·· فأخذت منه قبضتين ومضيت ألحق بالخميس وأخيه في الوادي يقطعان الأشجار لصناعة الأوتاد لأمي· رآني الخميس، همس لأخيه بعبارة لم أسمعها لكني أعرفها؛ إذ ما ذهبا إلى مكان أو مهمة يطيلان الغياب فيها إلا وتعقبتهما متزودا لهما بزاد·· كما عوّدتني أمي، فكانا يتراهنان على ذلك·
مكثت معهما ننتقي ونشذب الأعواد والأوتاد ساعات حتى انتهينا وحملناها وأتينا إلى أمي وساعدناها حتى أقامت الخيمة·· وقد أصبحت أكثر اتساعا·