رواية "طبيب تينبكتو" لعمر الأنصاري، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت أواخر سنة 2011، هي رواية تستمد وقائعها من أحداث حقيقية حصلت بالنصف الثاني من القرن العشرين، توحي بأنها تحمل تجارب شخصية مر بها الكاتب أو أقاربه ومعارفه.
أنت هنا
قراءة كتاب طبيب تينبكتو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
عدت أسال أمي عن تلك القصص والحوادث· أعادت قصها عليَّ كما سمعتها من المطرب· كانت كلما ذكرت قصة من القصص تباكت على ذلك الزمن الذي ملأ فيه أجدادنا الصحراء هيبة وقوة، كما كانت تردد· تلك القوة التي سلبها ايكوفار من أهلنا كما قالت·
في الصباح التالي، رافقت أمي عبر الشاطئ إلى صديقة لها من موالينا اينهضن(10)، كانت والدتي تقصدها إذا ما اقتربت المناسبات والأعياد، لإصلاح وتمشيط شعرها هي وشقيقتي حليمتو· كانت الممشطة وأختها تنتظران زيارات أمي بفارغ الصبر·· لبالغ كرمها معهما· وما إن تبدأ الكبرى في تمشيط شعر والدتي، تكون أختها قد التقطت ربابتها الإمظد لتعزف عليها من ألحانها الجميلة الشجية لوالدتي·
في حين تمضيان الوقت·· أكون أنا عند الشاطئ أتعلم السباحة والغوص مع بقية صبية زكاتن، أو أساعدهم في استخراج السمك من شباك الصيد من باب العبث والاستمتاع· ذلك السمك الذي لا أجرؤ على حمل شيء منه إلى البيت·
ذلك اليوم، لمحت أقارب لنا تقلهم القوارب أتوا من الضفة الأخرى للنهر· جماعات على غير عادتهم· كنت في غفلة هذه المرة عن عرس كبير كانت الاستعدادات له جارية، اعتقدت لوهلة أن ضيفا كبيرا قادم من إحدى مناطقنا أتى الجمع لاستقباله·
لم أفطن أن التجمعات كانت من أجل المولد النبوي الشريف، ومن أجل عرس أقرب الناس إليّ· هكذا إذ تجري الأمور فإن أهل العروس الصغار آخر من يعلم· كان ذلك زواج أختي حليمتو· عقدت الصفقات خلف ظهري· كنت قد رأيت وفد قريباتنا الذي أتى لطلب يدها قبل فترة دون أن أفطن، ورأيت الفتاة التي بلغت الثامنة عشرة·· رأيتها في المساءات تذهب في رحلات قصيرة مع صديقاتها لقطف مساويك الأراك·· وورق السدر لغسل شعرها· خمنت كل شيء إلا صفقة الزواج تلك· ستذهب حليمتو·· وتتركني مع فاطمة· يا لهذه الزيجات في تفريق الإخوة· ساعتها فقط أدركت كم تعلقت بحليمتو وأحببتها دون أن أعرف· كنت بحكم المدلل أنازعها كل شيء، ما إن أصر على أخذ شيء من أشيائها حتى تزهد فيه وتتركه لي· أحبتني، ولكم سيتعزز ذلك الحب حين تأتينا في زيارات أو أذهب إليها في الضفة الأخرى؛ إذ لا أعود إلا محملا بالهدايا، كانت أول من أهداني قلما أحضره زوجها من تينبكتو· وأول من أعطاني ثوبا من قماش بزم النفيس· كانت أختا محبة بكل ما تعنيه الكلمة·
غفوت اليوم بعد صلاة الصبح في خيمتنا وأنا أتبادل قصص تين الخير الخرافية عن العماليق مع شقيقتي الصغرى فاطمة، التي وإن كبرتها، فقد أوتيت مكرا بالغا·· جعلها تتحكم بي أحيانا· كانت تحملني إذ كنا صغارا على اللعب· فتأخذ هي دور أمنا، وآخذ أنا دورها، فكانت تناديني باسمها أحيانا·· وتوجه لي الأوامر بزعم أنها والدتي حتى إذا فطنت أمي للعبتها الفجة نهرتها·
أخذني النوم يومها وأنا أذكرها ببعض تلك القصص· أفقت يغمرني شعور سعادة لم أعرفه من قبل·· شعرت بالسعادة والرضى ينسلان إلى أطرافي· ما وقعت عينيّ على شيء يومها إلا وجدته مكسوا بالنور· بدأت أصوات الأهازيج ترتفع، نهضت وأختي نجري في الحي، فكان الصغار في أبهى حللهم·· تلبّس النور كل الحي· أضفت المناسبة البهجة على أكثر الوجوه قتامة· عدت بعد جولة قصيرة أنا وأختي نستطلع ما يجري·
أخرجت لي أمي ثوبا كانت قد خبأته لي خصيصا لهذه المناسبة، ونعلين كان عمي أحضرهما لي في آخر رحلة له إلى تينبكتو، فكانت تلك أول نعال أنتعلها منذ ولدت· كانت بهجة المولد النبوي فاقت كل شيء عرفته· لبسنا زينتنا·· مضينا مع بقية الصغار ندور في الحي، قديد هنا، ومضير هناك· وتمر وصمغ·· الكل يجود بما لديه·
توشحت النسوة بألحفة زرقاء ثمينة·· ومعاصمهن مثقلات بأسورة الفضة المستورد من كماشي·· تقلدن ألوانا جليلة من عقود الأحجار الكريمة·· وقلائد الخميسة(11)·
رأيت الرجال يومها وقد ضاعفوا زينتهم، حضر عمي في درّاعتين، واحدة زرقاء·· تمد أخرى بيضاء أطرافها من تحتها· وكذا عمامته الزرقاء المصقولة بالنيلة تصدر أصواتا كأنما هي ورق لشدة الصبغة والصقل اللذين تعرضت لهما، كان يلفها على عمامة أخرى بيضاء تتدلى من تحتها· تمنطق بسيفه الجديد الذي تتدلى من جرابه ذوائب الجلد الملونة· اعتلى ناقته كأنما هو نسر يهم بالطيران إلى أفق السماء· توجه الجميع إلى شرقي تارّايت حيث الأرض مشجّرة ومتساوية· تحلقوا في أعظم تجمع·· قرعت الطبول، وفي جوفها أسورة الفضة لتعطي دويا يعلن هيبة المناسبة·
ملأت زغاريد النساء الأرجاء·· تحلق الناس حول المطرب الذي توسط الناس تحفه النساء بطبولهن ليبدأ الغناء الذي طار بالألباب· أخذت الجمال تبتعد قليلا ثم تعود إلى التجمع تختال حتى إذا ما بلغت حلقة الطرب دارت حولها راقصة بأعناقها· أتت الفتيات مكللات بتيجان الفضة والأحجار الكريمة·· وتيجان أخرى مذهّبة· رأيت أختي حليمتو كأنما هي حورية من زينتها·· أشارت إليّ وحرصت أن أجلس بجوارها في حلقة الطرب وشدت بيدها على يدي لاقتراب فراقنا·
لم أتمالك نفسي إذ لم أستطع مقاومة الطرب· أخذت أرقص دون شعور تحت وقع صوت الطبول·· وضرب العود الذي يلامس صوته أعماق الروح· صدح يومها ابن خال لنا بصوته القوي بالغناء· تحت تصفيق منتظم من الرجال والنساء· كانت فرصة للشبان الذين يريدون التودد لبعض قريباتهم في رش أغلى أنواع قوارير الطيب على الراقصات، أملا في لفت أنظارهن إلى نبلهم وأناقتهم استعدادا للتقدم لخطبتهن فيما بعد· استمر الزهو والتطريب حتى نطقت الوجوه السعادة وأشرقت من الغبطة·