رواية آلام ظهر حادة، للكاتب السوداني عبد الغني كرم الله؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب آلام ظهر حادة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
آلام ظهر حادة
الصفحة رقم: 2
وللحق حين تمت ولادتي فيالمصنع الحديث للمنتجات الجلدية لم أكن أعرف مصيري والغاية من خلقي، وإن كانت نفسي تنطوي على حلم غريب، وبأني شيء نفيس وكيان مطلق، حر ومستقل، ولم أر أرجل بني آدم حينها مطلقاً، فتم خلقي من جلد الماعز والضأن والبلاستيك، وقد خلق بطني من بلاستيك سميك، ولم أكن حينها على علم بما يضمره خالقي من سماكة بطني، ثم زخرف بطني حتى تكون خشنة ثم طبع عليها طولي ووطن ميلادي، ثم لفت حوافي بجلد ناعم ورقيق، ثم مشط شعري بسيور جميلة، وكنت سعيداً بشعري الطويل الحر، حتى جاءت شاحنة ضخمة، فوضعنا في كراتين على ظهرها، ومعي كمية كبيرة من شنط وحقائب وأحزمة وكتاين ساعات إلى معرض المنتجات الجلدية بشارع الجمهورية· وحين وقع الاختيار عليّ لوضعي كنموذج لإخواني في زجاج الفترينة، كنت أبحلق بذهول في بني آدم، وهم يتجولون حولي، ويقفون كثيراً، وكان زجاج الفترينة يحرمني من سماع كلامهم، ولم أتخيل ما يدور بخلدهم، ولكني لم أر بين المتجولين من يضع على رأسه حذاء أو يحمله كالحقيبة في يده أو يلفه حول معصمه مثل كتينة الساعة، وحينها أدركت المأساة، ورثيت لإخواني المساجين في الكراتين وهم لا يعلمون مصيرهم البائس، ولا يحق لنا المطالبة أو حتى مجرد الحلم بأن نكون على الرأس مثل الكاب، أو حول خصور النساء كالأحزمة، أو في الأيدي مثل كتاين الساعات والأسورة، وبأننا لم نخلق إلا للوطء والدوس· وحقاً لماذا لا يولد بني آدم وأحذيتهم بأطراف أرجلهم مثل حوافر الحمير، وأظلاف الماعز، ونُكفى شرهم، وكأنهم طردوا من جنة الرحم قبل نضوج حوافرهم، فأخفوا عاهتهم بانتعال الحذاء، طوبى للأحذية في بطون الحوامل، فهي عذراء وملساء من أرجل الأجنة وبطش المسامير، فلم أسمع كشكشة صندوق الإسكافي تتسلل من بطن الحامل، فالطبيب يذهب حيث يكون المرضى، وكفى الله أرجل الجنين شر الترحال في سبيل القوت، أم ضرب على بني آدم السعي في فجاج الأرض لجهلهم بمواقع خزائن الله وأسراره، فالموتى ينعمون بحياة رغيدة في جوف القبر، بلا حذاء أو ماء أو نور أو سلطان· ما أشد فقر بني آدم، فذاته لا تكفيه، وكأنه ولد ناقصاً، لم لا يكون مثل شجرة النيم، في قوتها وصبرها وموتها، فهي لم تخط في حياتها خطوة واحدة من مسقط رأسها وحتى حتفها، ولم تجر بدمها الأخضر غريزة الترحال، ومع هذا، عاشت طويلاً، فنبتت برعماً طرياً، ثم أورقت وأزهرت وأثمرت، وتمتعت جذورها بمص طين الأرض الطيب، وحين تموت، تموت واقفة، وكأنها تسخر من الفناءانتصب حتى تسقط بصورة أفضل، أما بني آدم يحتاج للسكين والحذاء والبطانية والكتب والنبوءات والنور حتى يقضي وطره السرمدي·