رواية آلام ظهر حادة، للكاتب السوداني عبد الغني كرم الله؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب آلام ظهر حادة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
آلام ظهر حادة
الصفحة رقم: 9
وحين سكنت حركة الأحذية المكورة اجتزنا الشارع، قتلت برعم شجرة صغير، قد يملأ عبيره الشارع غداً ويصبح شجرة ضخمة، وتصبح مأوى للعجزة والشحاذين، وقد تلهم شاعراً لخلق قصيدة حالمة، تهدهد نفوس قارئيها· بدت فردتي الشمال تئن، فقد انغرس في بطنها حجر حاد، ثم فجأة شات بوجهي صندوق علبة كبريت ملقى في الشارع، كانت اللطمة خفيفة ولكن فجاءة الركلة هي التي أصابتني بالفزع، ثم عفصت علبة سجائر ملقاة في الشارع· وللحق فقد صرت أخاف من وجود أي صندوق أو علبة في قارعة الطريق، فهو يدوسها وبشكل شبه دائري على الأرض وكأنني حجر طاحونة، فترتفع درجة حرارتي وأنا أطحن الصندوق مع الأرض والحصى، وكأنه يكره كل شيء بارز في الأرض سواه، فهو يسوي كل بارز بظهر الأرض بأديمها، ثم مضينا إلى شارع مدرسة متوسطة، فقد كانت الأحذية تسير في طوفان، فشممت رائحة مئات من فتات السندوتشات والحلوى والطعمية، وقد طحنت ببطني مئات من الحشرات والنمل وهن يلتهمن بقايا السندوتشات، ثم سرنا في خط مستقيم لينحرف فجأة فيدوس صرصوراً هائماً، كان سعيدا وهو متجه لجحره، وهو يحمل على رأسه قوت أسبوع لعياله، ثم عرجنا على عمارة كبيرة، فطلعنا الدرج، ثم سرت على أرض ناعمة، وكأنها حشائش صناعية· التصق ببطني روث النمل والصرصور والطين والحصى· اختنقت من هذه الملاءة النتنة، وعند الساعة العاشرة وقف في أحد أركان المطاعم الشعبية، فانغرز في بطني مسمار حاد، وعفصت نملة لم تكمل وجبتها الدسمة، وكان حينها يشرب زجاجة بيبسي كولا باردة، غير آبه لتضرعي، ولا لأنين النملة المسكينة وهي تحتضر، في حين كانت عذوبة زجاجة البيبسي تنزل برداً وسلاماً في جوفه المظلم، بينما تتابع عيناه أفواج الفتيات وهن يعبرن الشارع إلى محطة أبوجنزير، متهكما، وطرباً وراغباً، حقاًتئن الأرض، والسماء تلوذ بالصمت ولا حياة لمن تنادي، يالها من قسوة، إنها اللامبالاة تسير على رجلين· كل يوم يتجذر فيّ نقص بني آدم، فهم لا يعون بحواسهم المحدودة سوى رأس المخلب لأسد يملأ آفاق الوجود· ثم خطا نحو موقف ابوجنزير، فاختلط جثمان النملة في بطني بقطعة ثلج ملقاة، فانتعشت روحها المظلومة في أول درج البرزخ، فقد دفنت بين شقوق بطني، فسرت بها، كما تسير الأرض ببني آدم وهم لا يعلمون، ثم عرجنا على مكتب هندسي، ثم سمعناه يسأل عن فاطمة، فقيل له بأنها ذهبت قبل قليل، ولا ندري إلا وهو يرفع فردتي الشمال ثم يضرب بها الأرض، وهو يصيح يالله يا الله، ونحن لا ندري العلاقة بين ذهاب فاطمة وضرب فردتي الشمال بهذا الطريقة الخطرة، وماهو ذنبنا إن لم تتطابق إرادته مع إرادة الكون، هذا الوجود الغامض، ولو كان الأمر هكذا لخسفنا بك الأرض أيتها الأرجل الماكرة القاسية، إنه يسقط علينا احتجاجاته، ثم أسرع، تغير إيقاع خطواته، فارتفعت حرارة الرجل بداخلي، وصرنا نسمع تدفق الدم وكأنها جداول تحمل روث البهائم·
لا أنكر أن عرق رجل العاشق، ونبض قلبه ودمه الذي أحسه وهو يحشر قدمه بداخلي، وكأنها خمر تزلزل أركاني وتشحذ حواسي، فأرى ذرات التراب الحقيرة وكأنها لؤلؤٌ من ضوء، وأسمع صوت الخطوات كأنه صوت حبيب غائب عن دار حبه سنوات، وقد حج إلى داره· أحياناً أتمنى أن تمتطيني الأرجل التي شاركت في الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر، وأسفار المسيح، فعرق أرجلهم أطهر من رحيق العطر وماء زمزم، وأن أكون حذاء ذلك الفيلسوف الذي قال :إن العمل الذي يجب أن ينجزه، هو نقد علمي صارم، لنظام دولي واجتماعي فيه الإنسان مخلوق مستذل، ومستعبد، ومهجور، ومحتقر، وأنه يسعى لتغيير العالم لا لفهمه فقط، كما يفعل الفلاسفة المثاليون مثلي تماماً، صورة طبق الأصل، هذا الكائن الإنساني المهجور المحتقر من قبل إخوته الأقوياء·