أنت هنا

قراءة كتاب حفيد الـ (بي بي سي)

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حفيد الـ (بي بي سي)

حفيد الـ (بي بي سي)

تتحدث رواية "حفيد البي بي سي" للروائية العراقية ميسلون هادي؛ عن صداقة النساء مع الراديو من خلال شهرزاد الجدة التي ولدت في الناصرية وتزوجت ممتاز قارئ المقام من كركوك ثم خلفا ست بنات وثلاثة أولاد توأم وبعد ذلك إثنين وعشرين حفيداً بينهم بطل الرواية عبد الحليم.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
الرقيب الوفي وجدته الفاتنة
 
شهرزاد مكنستها جميلة وأطباقها جميلة والوسادة التي تنام عليها جميلة·· ومن المرجح أنها ولدت عندما كانت البيضة تباع بفلسين، والطرق تضاء بالفوانيس، والماء يكتسب البرودة من تخزينه بالسراحيات والمشربيات والجوالق الفخارية·· المهم أنها جاءت إلى الدنيا بعد أن بلغت بريطانيا، أكبر امبراطورية في التاريخ، أوج عظمتها عام 1920 فشملت مساحتها ما يقرب ربع مساحة اليابسة في العالم· حينئذٍ أسس الإنكليز مشروع الكهرباء لإنارة الطُّرق الرَّئيسة بعد دخولهم بغداد في الحادي عشر من آذار عام 1917، ثم أناروا بعد ذلك الطُّرق الفرعية حتى وصلت الكهرباء إلى بيت النبي إبراهيم القريب من زقورة أور، المدينة التي اخترع فيها السومريون الكتابة والمكيال وأقدم آلة موسيقية في التاريخ وهي القيثارة المطعمة بالذهب····
 
هناك ولدت شهرزاد الى الجنوب من بغداد والشمال من البصرة، في المنطقة التي دارت فيها معركة ذي قار الشهيرة بين الفرس والعرب قبل قرون عديدة، ثم سميت فيما بعد بالناصرية نسبة الى أمير عربي، عندما أسسها الوالي العثماني مدحت باشا عام 1869، وخطط شوارعها المستقيمة مهندس بلجيكي على هيئة سبعة شوارع متعامدة على بعضها البعض بشكل مستقيم رائع يشبه رقعة الشطرنج· كان يحيط بها سور على هيئة نصف دائرة وترُها نهر الفرات، ولكن ذلك السور هُدم في نهايات العشرينيات من القرن الماضي، بعد اتساع المدينة وبلوغ تعدادها نصف مليون نسمة تزايد فيما بعد إلى مليونين إلا ربعاً وفق البطاقة التموينية التي توصلت إليها الحكومة أيام حصار التسعينيات الذي اختفتت فيه الخردة من الجزادين والطائرات من السماء···· الطريق الإسفلتي الوحيد المعبد بالقار في ذي قار كان يسمى بالمكيّر، ولأنه يؤدي الى زقورة أور بعد مروره بمحطة القطار في الناصرية، فقد ظن الناس أن المكير ومحطة القطار شيء واحد·· مما جعل الشاعر زامل سعيد فتاح يخلد تلك المحطة في قصيدة تقول: مشيت وياه للمكير أودْعنّه، مشيت وكل كُتُر مني إنهدم بالحسرة والونة، لحنها كمال السيد على مقام الرست وغناها المطرب ياس خضر عندما دخل التلفزيون الملون إلى العراق، فوضعوا خلفه درزن باينباغات ملونة تتدلى من سقف الإستوديو كما الرماح·
 
ولد أبوها ناظر تلك المحطة قرب مزارع الرز العنبر في ناحية الشامية التابعة للواء الديوانية ثم تزوج في شطرة الناصرية من فتاة تدعى شمسة مولودة في محلة البغادّة بسوق الشيوخ الذي أسماه السومريون (سوك مارو) أي سوق الحكيم· يقول رواة المدينة إن سوق الشيوخ نشأت على مرتفع واسع من الأرض أو تل أسود كبير يقع على واحدة من اليشن السومرية القديمة حيث وجد فيه بعض الباعة من أبناء الأرياف القريبة خيرَ ساحة لمبادلة البضائع المختلفة· هناك ولدت شهرزاد ابنة شمسة ابنة محمود الذي استشهد في ثورة العشرين بعد أيام من ولادة شمسة لبكرها شهرزاد······ وفي الوقت الذي كان فيها جدها المهوال محمود يثور ويهزج ضد الانكليز الطوب أحسن لو مكواري، أُعجبت شمسة، التي رأت مصباحاً كهربائياً لأول مرة في حياتها، بمخترعات المحتلين الإنكليز الجديدة، وأرادت أن تسمي مولودتها الجديدة مصباحاً، لولا تدخل زوجها صبيح الذي غير اسمها إلى غزال بعد سماعه قصيدة يا غزال الكرخ لمحمد سعيد الحبوبي· وبقي اسمها في سجلات الأحوال المدنية غزالاً وكذلك في سجلات المدارس والمحاكم الشخصية، لكنه تحول في البيت إلى شهرزاد تيمناً باسم جدتها الأولى شهرزاد، أول امرأة تتذوق البيرة في العراق بناءً على نصيحة الحلاق عاصي الذي طببها من الاعتلال الكلوي المزمن·
 
وهي صغيرة تأخرت في النطق فزوّرتها أمُّها شمسة ضريحَ السيد أحمد الرفاعي والسيد خضير وباقي سادة أرض ذي قار، فانحلّت عقدة لسانها، وتحولت بقدرة قادر من خرساء إلى لبلبان·· وعندما تعلمت المشي سارت أولى خطواتها بين تلال أم العقارب وممرات زقورة أور وآثار أريدو ولكش، ثم سبحت وهي في سن الثالثة في مياه هور الحمَّار·· أتقنتْ الكتابة والقراءة عند الملا لبيبة قرب مقام المنصور، هذا المكان الذي قال أبوها صبيح إن الإمام علي عليه السلام مر به مع جيشه عند ذهابه إلى البصرة قبل معركة الجمل الشهيرة·· هناك قرب المدخل الغربي للناصرية وعند مقام المنصور الذي تحيط به مقبرة قديمة يدفن فيها الأطفال، نهضت أسطورة شهرزاد التي أظهرت براعة غير مسبوقة في الحفظ، فسميت بنابغة الناصرية، وأصبحت فرجة دائمة لضيوف أمها وأبيها بعد أن حفظت جزء (عمّ) في ساعات معدودة، والنتيجة أن أباها قرر أن يسجلها في مدرسةٍ في عَكْد النصارى ببغداد عندما نُقل إلى هناك ناظراً للمحطة العالمية في الصالحية وكان قبل ذلك سائقاً لقطار الخط النازل من غربي بغداد إلى البصرة عبر الناصرية·· أبوها صبيح هو أقدم سائق للقطار في المحطة وكان معلّماً لسائق القطار الشهير الذي عبر الجسر الحديدي عند افتتاحه عام 1945، بعد أن تراجع السائق الهندي عن ذلك رهبةً من وجود الملك في القطار· هذا السائق الشهير هو المرحوم عبد عباس المفرجي، الذي عرف فيما بعد بسائق قطار الموت، وهو الذي أنقذ 520 سجيناً سياسياً، وُضعوا جميعاً في عربات الحمولة من موت محقق دون أن يدري·· كانت السلطات قد طلبت منه في الرابع من تموز عام 1963، بأن يسير بشكل بطيء بإولئك السجناء، لكي يقضوا حتفهم في الطريق بين بغداد ونقرة السلمان، بعد أن أَغلقت عليهم جميع المنافذ التي يمكن أن يتسرب منها الهواء إليهم· ولكن سائق قطار الموت حينما علم بأن قطاره ينقل مئات الوطنيين العراقيين، عرف مقصد الذين طلبوا منه أن يبطئ في سيره، وتحركت عنده مشاعر الوطنية، وبدأ يسير بأقصى سرعة ممكنة، حتى أوصلهم الى محطة قطار السماوة، ثم فتح الأبواب أمامهم ليتنفسوا الهواء الطلق، وتنكتب لهم حياة جديدة· كان ذلك السائق صديق أبيها صبيح وتلميذه، وشاءت العناية الإلهية أن تختاره السماء لإنقاذ ابنها معيط من الموت المحقق، في ذلك القطار الذي لا تذكره شهرزاد إلا وتذكر معه ذلك الحدث البطولي···

الصفحات