تتحدث رواية "حفيد البي بي سي" للروائية العراقية ميسلون هادي؛ عن صداقة النساء مع الراديو من خلال شهرزاد الجدة التي ولدت في الناصرية وتزوجت ممتاز قارئ المقام من كركوك ثم خلفا ست بنات وثلاثة أولاد توأم وبعد ذلك إثنين وعشرين حفيداً بينهم بطل الرواية عبد الحليم.
أنت هنا
قراءة كتاب حفيد الـ (بي بي سي)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
في الطرف الآخر من تلك الجلسات الريزخونية المليئة بالمراثي والدموع الغزيرة، كانت التركمانية باجي كُلبهار خاتون من التون كوبري في كركوك هي راعية الأمل والفرح وعاشقة الكحل والسبداج، وهي التي رقصت في زفة شهرزاد عروس ابنها ممتاز، يتقدمها راقص هزلي مغطى بالقطن المصبوغ، وهازجون في دبكة هالاي يحيطون بهودج العروس لحين وصولها إلى ممتاز، العريس الذي كان ينتظر عروسه على سطح البيت لكي ينثر عليها النقود والحلوى بيمينه المزدانة بساعة أولما فاخرة الثمن اشتراها من محل ناجي جواد الساعاتي· صدَقَ من قال حتى مكدّي كركوك علّيقته من القطيفة· فقد ظلت باجي كلبهار تصبغ شعرها وعينيها باللون الأسود وترتدي فساتين الكيمونة، حتى بعد أن أصبحت طاعنة في السن ينادونها أحفادها بالنانا··
بعد خطبة شهرزاد إلى ممتاز أخذوها إلى الساحة الكبيرة الواسعة التي تقابل جامع مرجان، وفيها يتجمع الباعة ليبيعوا لليهود، العائدين إلى بيوتهم مساء، كل ما يخطر على البال·· وفي تلك الساحة رأت أول مكينة سيفون وجنجر وصودا، كما تذوقت النامليت الذي كان يباع جاهزاً بالقناني المغلقة بالكرات الزجاجية· ومن نهاية هذه الساحة يبدأ شارع البنك بخان مرجان على جهة اليمين وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار ثم تليهما دربونة (النملة) التي تتصل بشارع المستنصر الذي يسمّيه العامة بشارع النهر· هناك رأت ملابس العرائس ودشاديش النوم الشفافة للمرة الأولى·· سوق العرائس ذاك كان يسمى قديماً بخان الشابندر وكان يضم أكثر من سبعين معرضاً للصاغة أكثرهم من الصابئة المندائيين واليهود العراقيين قبل هجرتهم و تسفيرهم من العراق بعد النكبة·
حين توقفت مع ممتاز وأمه كلبهار خاتون لشراء كردان الذهب من الصائغ خضوري تناهت إلى أنفها رائحة بخار قادمة من نهاية الدربونة، وهناك شاهدت محلاً لكيّ الملابس بالبخار للمرة الأولى في حياتها· كان ممتاز الفنطازي القادم من كركوك أكثر انفتاحاً من أهلها القادمين من الشطرة، فكان يرتدي قاطاً وباينباغاً وقميصاً أبيض اللون كواه عند مكوى الأرمني (توماس ميمريان) بروبية واحدة، وهو المكوى الذي أعجبت شهرزاد برائحته ونظافته التي لم تر لها مثيلاً من قبل، كما لم تر مثيلاً أيضاً لأناقة متجر خضوري الذي لم يغادر العراق عند تهجير اليهود، فظلت تتردد عليه لشراء الذهب حتى أواخر الأربعينيات·· أيامها كان الوضع في بغداد متوتراً، وقد انفجرت قنبلة صغيرة في ركن اليهود الذي كانوا يجلسون فيه بمقهى الشط الواقع نهاية شارع النهر، فقال ممتاز إن ذلك إنما هو لدفع اليهود إلى الهجرة إلى إسرائيل·
في ذلك المقهى كان يغني ممتاز مع فرقة الجالغي البغدادي التي يشكل اليهود أغلب عازفيها، وليلاً عندما يضاء مقهى الشط باللوكسات المستوردة من ألمانيا، يلتقي هناك وجوه بغداد المعروفة آنذاك أمثال قاسم باشا وحسن باشا وعبد القادر باشا الخضيري، الذي كانت ترسو مراكبه أمام المقهى، والشاعرين الرصافي والزهاوي في بعض الأوقات· بعد ذلك الحادث غادر خضوري فباع متجره للذهب وسافر إلى إسرائيل ولم يعد، ولكن قلب شهرزاد تعلق بسوق شارع النهر المائج بالبشر وظلت تتردد عليه بشكل أسبوعي·· كان السوق ملاصقاً لأقدم سوق للكتب منذ أيام العباسيين، وهو سوق السراي الذي يغص بالمطابع والمكتبات·· وفي أيام رمضان كانت شهرزاد تصل إلى هناك من منطقة المصبغة المجاورة لسوق الخفافين لتجد مقهى الشط ذا الطابقين، والمُزيّن بالزخارف البغدادية الجميلة، مفتوحاً خلافاً لباقي المقاهي· هناك كان زوجها ممتاز يغني في المقهى التحتاني، يرافقه قارئ المقام اليهودي يوسف حورش ونخبة من الموسيقيين كصالح الكويتي ويوسف بتو وعزوري وجميعهم من اليهود الذين غادروا بعد حادثة القنبلة وإعلان الأحكام العرفية ببغداد· كان الجمهور يقبل على سماع قراء المقام أحمد زيدان ورشيد القندرجي الذي عندما كان يغني في الرصافة يُسمع صوته في الضفة الأخرى من نهر دجلة المحتشد بقوارب الصيادين والقفف والمهيلات والأكلاك وهي تنقل الخضراوات والفواكه من ضفة الرصافة الى ضفة الكرخ· أما المقهى الفوقاني الذي كان يشهد حفلات التياترو الراقصة مرتين يومياً فتحيي حفلاته أشهر راقصات ومغنيات ذاك الزمان أمثال طيرة وسلطانة يوسف وصديقة الملاية·
لا تزال شهرزاد تكشف لأحفادها روعة تلك الرحلة التي اكتشفت فيها جمال بغداد يوم شرائها لنيشان زواجها، فرأت لأول مرة في حياتها المكوى والجامخانة والمكتبة وسمعت بالسيفون والسينما والبندق والفستق والدوندرمة· سار ممتاز، الفنطازي الهابط إليها من الجبال والخاطف قلبها وقلوب أهلها منذ النظرة الاولى، بالركب حتى نهاية شارع النهر، حيث البناية الضخمة لشركة لنج للنقل النهري، ثم خرجوا إلى شارع الرشيد من ركن أنيق قال لهم ممتاز إنه مكنزي، المكتبة الإنكليزية المشهورة في بغداد، وتقدموا تلقاء محل الخياط البيروتي الشهير علي رضا الذي خاط له بدلة العرس، وبعده سنترال سينما التي جرت فيها حفلة المصارعة المشهورة بين الهير كريمر الألماني والمصارع العراقي الحجي عباس الديك، ثم مروا بالمباني التي اشتملت على المصورين والخياطين والصرافين ومسارح اليهود وملاهي الآرتيستات والكاولية ودكاكين الأرمن الذين يبيعون البسطرمة والكيك واللبن الرائب والدوندرمة والمكسرات·· واستنتجت، بعد تلك الزيارة الأولى لشارع الرشيد، أن عالم الجمال والمأكولات اللذيذة في بغداد كان يصنعه اليهود والصابئة والمسيحيون والأرمن· أما عالم الفنون والجنون فأنشأت له شركة بيضافون محلاً في خان دله ببغداد لإنتاج الإسطوانات التي تدور حول نفسها كالمراوح وتنطق بأصوات جميع مطربات ومطربي بغداد المشهورين كمحمد القبانجي وسليمة باشا مراد ونرجس وزكية جورج ومنيرة الهوزوز وزهور حسين وصديقة الملاية وحضيري أبو عزيز وغيرهم، ثم سجلت بيضافون أيضاً قوانات لمطربين من البصرة والناصرية والموصل ومنهم زوجها ممتاز صدوقي قارئ المقام الكركوكلي مما دعاه إلى شراء فونغراف أسود اللون بخمسين روبية صار عجبةً لأهل البيت· ولشهر زاد التي استمعت من خلاله فيما بعد إلى أغنيات رضا علي وفراقيات عباس جميل على نغم الجورجينا·
لا تزال شهرزاد تذكر لأحفادها روعة تلك الرحلة التي راحت تكررها بعد ذلك كل أسبوع مستقلّةً باصها رقم (4) من ساحة الميدان إلى ساحة النصر، سابحة في نهار شارع الرشيد الجميل من الشورجة إلى مطعمي الإخلاص وتاجران، ومن كعك السيد وكاهي الحيدري إلى مكتبة مكنزي وأورزدي باك، ومن مطحنة قهوة آرتين ومقهى البرازيلية إلى محلات الباسطرمة الأرمنية وشربت الحجي زبالة، ومن مقهى المربعة وصالون حكمت الحلي إلى سينما الوطني وروكسي وساحة حافظ القاضي·