تتحدث رواية "حفيد البي بي سي" للروائية العراقية ميسلون هادي؛ عن صداقة النساء مع الراديو من خلال شهرزاد الجدة التي ولدت في الناصرية وتزوجت ممتاز قارئ المقام من كركوك ثم خلفا ست بنات وثلاثة أولاد توأم وبعد ذلك إثنين وعشرين حفيداً بينهم بطل الرواية عبد الحليم.
أنت هنا
قراءة كتاب حفيد الـ (بي بي سي)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
سكن أهلها في عكد النصارى قريباً من محل جواد الساعاتي، أول مسلم امتهن بيع الساعات في شارع الرشيد بداية الأربعينيات، وكان محله قريباً من المكان الذي حاول صدام حسين فيه اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959، تبعه ابنه ناجي جواد في افتتاح محل للساعات في ساحة حافظ القاضي عام 1948، ومنه اشترى قارئ المقام ممتاز ساعة أولما محترمة وضعها في معصمه يوم زفافه إلى شهرزاد···· الضاحية التي انتقل لها أهلها، بعد عكد النصارى، لم تكن تحمل اسماً من الأسماء، ثم أصبحت تعرف بقناة الجيش بعد أن افتُتحت في عهد ابن الصويرة عبد الكريم قاسم بداية الستينيات وسميت بهذا الاسم كونَها شُقّت من سرية الهندسة الأولى في فوج موسى الكاظم، وذلك لدرء الفيضان عن نهر دجلة من خلال تمرير مياهه الفائضة جنوباً لتصب في نهر ديالى عند منطقة الرستمية· أصبحت شهرزاد في المدرسة مشهورة بابنة ناظر المحطة والوحيدة التي ركبت القطار عندما انتقلوا من الناصرية الى بغداد فأجلسها أبوها قربه في مقطورة القيادة·
صار من المكروه في عُرْف أبيها صبيح أن لا يرث أبناؤه مهنته ولا يظهروا اهتماماً بها كما هو معتاد في أخلاق هذه المهنة، عدا شهرزاد التي أرادت أن تتعلم مهنة الرجال، فكانت تتوسل أباها أن يأخذها معه في جولاته التفقدية بين محطات بيجي وبغداد والبصرة·· وقادت وهي في العاشرة من العمر مسافة عشرة كيلومترات من الطريق بين جلولاء وشهربان···· كانت الأصغر بين أبنائه الذكور الذين لم يفلحوا في المدرسة الغربية برصافة بغداد، بينما أظهرت هي نبوغها المتوقع، وتفوقت في القراءة والحساب والتاريخ، لكن بسبب قامتها المديدة، نفتها المعلمة إلى مؤخرة الصف لتجمع هناك بين الشطارة والوكاحة ومضغ العلكة أثناء الدرس·· وبسبب طولها المفرط أطلقت عليها البنات لقب الطنطل ثم المغزل دادة ثم لقباً ثالثاً هو القرعاء بعد أن امتلأ رأسها بالقمل فراحت أمها تطحن الحبة السوداء جيداً وتعجنها في خل التمر ثم تدهن بها رأسها بعد حلقه نمرة صفر· كانت شهرزاد تبرطم شفتيها، عند تعريضه لأشعة الشمس، وتضرب عن الكلام حتى يغسلوا لها رأسها من دواء القمل بعد مرور خمس ساعات عليه· شعرها عاد لينمو من جديد وينسدل على كتفها كالشلال، فكانت أمها تلمه لها بذيل حصان من الخلف وتبرم ناصيته على شكل لوامس أغصان العنب من الأمام· جمال شعرها أصبح لعنة عليها فلم تكمل الدكتوراه في أي علم من العلوم، وأظهرت فتنة مبكرة وقواماً خلاباً كعود السيسبان، فخطبها ممتاز وهي في الإعدادية وتزوجت منه وهي في السادسة عشرة وبات بيتهما في قناة الجيش محطة للقطار شبيها بالمحطة العالمية في العلاوي·· يبيت فيه أهلها القادمون من الشطرة والجبايش وسوق الشيوخ وقلعة سكر، وأهل زوجها القادمون من القلعة والقورية وجمجمال·· كانوا يجلبون لها الرز العنبر من الشامية، ولقم القاضي من كركوك، والرمان من شهربان··
وفي شهربان ولدت أولى بناتها نهاوند عندما كانت ترافق ممتاز إلى هناك ليغني في حفلات مقهى حسن كركوكلي المجاور لمقهى حسن سفر حيث كان (القصّخون) يسرد قصص المياسة والمقداد، وعنتر وعبلة، وأبي زيد الهلالي، ومن بعده كان المرحوم عكار، وهو والد المطرب المعروف جبار عكار، يأتي إلى شهربان ويقرأ الشعر بمصاحبة الربابة في المقاهي· بعد ابنتها البكر نهاوند خلفت نصف درزن بنات هن حجاز وميان وصبا وصباح وبلقيس وعالية التي ولدت بداية الخمسينيات بعد وفاة الملكة عالية·· ثم رزقت نهاية المطاف بثلاثة أولاد ذكور·· وشهدت حرباً عالمية ثانية وستة انقلابات وثلاثة حروب طاحنة، ورأت كل وسخ الدنيا من الروبية القادمة من الهند إلى العانة التي هتف لها العراقيون في الستينيات عاش الزعيم الذي زيد العانة فلس، ومن العانة إلى ورقة المئة ديناراً التي مسح بها زوجها ممتاز أنفه أيام الحصار ثم نفاها إلى سلة الزبالة وهو يقول إن هذه الورقة أصبحت أرخص من ورق الكلينكس وهي التي كانت تكفي لشراء بيت في الثلاثينيات··· عاصرت زلزالاً وفيضاناً وجلوساً ملكياً في الخمسينيات، وأدركت هروب الكركدن من حديقة الزوراء نهاية السبعينيات وليلة نجمة أم ذويل نهاية الثمانينيات وعصر سامكو الزعفراني في التسعينيات·· تجولت مع زوجها قارئ المقام في كل محافظات العراق وعاشت في بحبوحة لأنه فاز بعدة جوائز في الموسيقى الشرقية قبل أن ينتهي بستجياً في مقاهي عزاوي والعبخانة وفضوة عرب·· كان يقرأ المقام مع مطرب المقام والمربعات قاسم الجنابي بعد مباريات المحيبس الرمضانية بين محلات الكفاح والفضل وأبو سيفين وباب الشيخ وغيرها·· ويفتخر بأنه غنى واقفاً وهو في العشرينيات من العمر مقام اللامي أمام محمد عبد الوهاب الذي زار العراق في الثلاثينيات، فأفاد منه عبدالوهاب في تلحين (أغنية يللي زرعتوا البرتقال يلة اجمعوه)·
يقول ممتاز إن السيد درويش فعل مثل ذلك أيضاً مع أغنيتين شهيرتين هما زوروني بالسنة مرة وطلعت يا محلى نورها شمس الشموسة اقتبسهما من الملا عثمان الموصلي··· كما شرح لأولاده وأحفاده أنه يوجد في الموسيقى الغربية مقامان فقط وهما سلم ميجر المقابل لمقام العجم، وسلم ماينر المقابل لمقام النهاوند· وبنفس الطريقة يجري في الموسيقى الشرقية عزف هذين المقامين أو النغمين في مواقع مختلفة من السلم الموسيقي، ولكن الشرقيين فرّعوا هذين المقامين بأشكال مختلفة، فجعلوا أي تغيير في ترتيب الأبعاد السبعة من السلم أو أي تغيير في كيفية إنهاء المقام، مقاماً منفصلاً·· وهكذا نشأت مقامات عديدة تختلف عن بعضها البعض مثل الحجاز والنهاوند والنوى والحجاز كار والحجاز كار كرد واللامي وغيرها·
شرح ممتاز لهم أيضا مشكلة الربع تون في الموسيقى العربية وقال لهم إن المسافة بين نغمة الدو ونغمة الرِى مثلاً تعتبر تون، ونصف المسافة تعتبر نصف تون·· وهذا ما يتعامل به الغربيون مع موسيقاهم·· أما نحن الشرقيين فأضفنا الربع تون·· وهو ربع المسافة بين النغمة والتى تليها·· وهذا نابع من زيادة إحاسيسنا وعواطفنا الجياشة·· عكس الغربيين الذين يتعاملون بالمسطرة والخطوط الحادة مع التون وهو النغمة الكاملة· وقد خلق هذا الربع تون امكانية وجود عدد كبير آخر من المقامات التي لا تستخدمها الموسيقى الغربية، فنشأت مقامات الرست والبيات والصَّبا و السيگاه والمخالف والبستة نگار وغيرها، مما جعل المقامات تسجل رقماً يزيد على التسعين مقاما· ولكن ما هو المقام العراقي؟- سألت شهرزاد اللبلبان زوجها ممتاز - في يوم قائظ من أيام آب اللهّاب- وما اختلافه عن باقي المقامات؟