تتحدث رواية "حفيد البي بي سي" للروائية العراقية ميسلون هادي؛ عن صداقة النساء مع الراديو من خلال شهرزاد الجدة التي ولدت في الناصرية وتزوجت ممتاز قارئ المقام من كركوك ثم خلفا ست بنات وثلاثة أولاد توأم وبعد ذلك إثنين وعشرين حفيداً بينهم بطل الرواية عبد الحليم.
أنت هنا
قراءة كتاب حفيد الـ (بي بي سي)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
عذراء بعد الزواج
كان حفيدها عبد الحليم شعيط واحداً من أولئك الأحفاد الذين عاشوا فوق سطح الأرض في المكان الذي تحولت فيه الطحالب والبزاقات إلى ذهب أسود بفعل النشاط الرياضي العظيم لأبطال البكتريا في التصارع ورفع الأثقال وكمال الأجسام·· عبد الحليم شعيط فتح عينيه على شعلة النفط الأزلية في بابا كركر، والتي عجزت الأمطار والثلوج طوال آلاف السنين عن إطفائها، كما ووهبت سكان العراق القدماء سيول النفط والقطران الخام لتبليط بعض الطرق وإكساء السقوف· وعندما كان عبد الحليم يقف على ربوة بعيدة لينظر إلى تلك الشعلة المتراقصة في صهد الشمس، فإنه لا يستغرب أزلية تلك النار التي تتصاعد على شكل لهيب متقطع يبدو وكأنه يتصاعد من فم تنين خرافي، فقد رآها منذ زمن بعيد يبدو وكأنه آلاف السنين·· عندما كان طفلاً يرسل بصره مندهشاً إلى الشعلة الملتهبة منذ فجر التاريخ عابقة بغاز كبريتيد الهيدروجين الذي طالما استسلمت له الريح وحملته إلى مسافات بعيدة···· ثمة جداول صغيرة من الزيت الحار تتدفق من الحقل النفطي توصف للتداوي من الأمراض الجلدية وقد تطببت بها جدته شهرزاد ذات يوم من حكة التايد المزمنة، بعكس الغاز الذي يجب تلافيه تماما ًعند زيارة باباكركر، واتخاذ الحذر، وفقاً لنصيحة أبيه، بمراعاة طريقة الوقوف مع اتجاه (الريح السائدة) وليس (عكسها)، تجنبا لاستنشاق الغاز السام····
عبد الحليم هذا استعار من زميله في رقابة الدوريات الأجنبية مجلة أمريكية اسمها (تايم)، قرأ فيها أن الرجل يفكر بالجنس كل 52 ثانية، وهذا الرقم وإن بدا له قياسياً بامتياز، إلا أن عبد الحليم رجح، بعد إجراء التجارب على نفسه وعلى مدير المدرسة، أن الرقم وارد بشكل معكوس، مما جعله يتساءل عن ضرورة الإعلان، في نفس المجلة، عن دواء منشّط للطاقة الجنسية رسم على علبته برج إيفل المنتصب وكتب تحته (ليلة الأضواء الحمراء)· قلب تلك الصفحة إلى صفحة أخرى فقرأ أن سرعة الضوء هي النهاية المطلقة لكل السرعات وهي التي تنتقل الأشعة بها وتنتقل المعلومات أيضاً· وهي سرعة كبيرة جداً بدليل أن الاشعة الكهرومغناطيسية تستطيع أن تلف محيط الكرة الارضية سبع مرات بمجرد أن تنتهي من نطق كلمة (وان)·
لملم عبد الحليم شفتيه ورفع حاجبيه إلى أعلى عند هذا الخبر السعيد وقال بإعجاب مرة أخرى: هكذا إذن·· حتى سرعة الضوء تقاس بكلمة (واحد)؟··· وهذا إذن هو حال البشرية في سكرتها بالواحد منذ الأزل·· تكون للكبير طاقة كبيرة على الجذب، فيدور الصغير حول الكبير كما تدور الصخور في أفلاك الكواكب والنجوم لكي لا تسقط أو تتفتت·· فمن يكره كلمة (واحد)؟··الشعب ينام على صدر هذا الواحد، ومن رأسه تخرج شهادات ميلادهم وتخرُّجهم وبطاقاتهم التموينية، وهو الذي يفتي ويقرر ويعيش نيابة عنهم··· ولكنه ليس كحامي الهدف ياشين الذي إذا عاد الى بيته ولبس البجاما سيكف عن حماية الهدف، لأنه ليس ثمة مباراة كرة قدم تقام في غرفة المعيشة، وليس كمايكل جاكسون الذي إذا عاد الى بيته ودخل الحمام سيكف عن تطريب الجمهور، لأنه ليس ثمة حفلة تقام في الحمام···· هو السيد الرئيس الذي إذا دخل الى قصره المستورد رخامه من إيطاليا وبلوره من بلاد الجيك، فلن يكف عن كونه رئيساً مسؤولاً عن الجميع·
تحفة معمارية فريدة من نوعها تشغل مع الحديقة الواسعة مساحة اثني عشر ألفا وخمسمئة متر لا تغيب عنها الشمس طوال النهار، فقد تم تشييد قاعدتها الخرسانية على عجلات تدور بحيث يلف القصر بمن فيه (كل ساعة) ليرى السيد الرئيس من النوافذ والشرفات كل ما يدور حول قصره ويتبع الشمس في دورانها على مدار ساعات النهار كما تفعل زهرة عباد الشمس·
إذن إذا لبس مثل هذا الرئيس البجامة والنعلين فلن يكف عن كونه رئيس الشعب الذي يحيط بقصره قبل العصر وبعد العصر، كما لا يمكن أن يكف عن التفكير بهذا الشعب لحظة واحدة حتى وإن دخل الحمام أو فتح رجليه وتربع من أجل التغوط···· ولكن ماذا لو سحب سيفون الحمام فطغى ضجيجها العالي فوق أفكاره المخصصة للشعب؟ ماذا لو تعتعه السكر أو قرصته بعوضة مناوئة ظلت تلاحقه من مكان لآخر عدة دقائق دون القضاء عليها·· هنا سيحدث نسيان للشعب، وقد يكون الأمر شبيهاً بأب ينسى طفله في الزحام فيتوه عنه إلى الأبد·· هنا قد تحدث الكارثة الأكيدة ويموت الطفل المسكين أو يخطفه المجرمون أو يباع إلى عصابات الدعارة····· إذن من واجب الرقباء الأوفياء الأمناء أن يهبّوا لإجراء اللازم لتدارك أمر هذا السهو أو النسيان إذا ما وقع به الرئيس وإلى مطاردة البعوض حتى قبل أن يتجرا بالاقتراب منه· يفعلون ذلك من أجل أن لا تغرق السفينة في لجة البحر المتلاطم، وهل يمكن للسفينة أو الطائرة أو العربانة إلا أن يقودها شخص واحد؟
العربانة التي يعيش فيها الرقيب الوفي عبد الحليم شعيط ممتاز، لها كراج كبير محاط بسور ضخم وعال يتجاوزه كل يوم ليأخذ الباص الذي يقله الى غرفته الحقيرة في فندق (صح النوم) قرب ساحة الوطن الأكبر·· وكان يستغرب دردمة الناس كل يوم من إنشاء هذا السور الجميل الذي يحمي الكراج من المتطفلين قائلاً لنفسه وهو يسمع اعتراضاتهم التي لا تنتهي: هؤلاء هم الدهماء·· هؤلاء هم الغنم الذين لا يفهمون شيئا غير الفقفقة والثرثرة الفارغة، تارة من السور العالي وأخرى من حزام الأمان أو من منع التجول يوماً واحداً لا غير··· وباقي الإجراءات التي تتخذها الحكومة الحكيمة لحمايتهم وتأمين سعادتهم·· حقا إنهم رعاع، وإذا لم يجدوا أحداً يتعاركون معه تعاركوا مع أنفسهم·· إنهم يجدون سعادتهم في التذمر وانتشاءهم بالأخبار الحزينة المزعجة··· فلان مات وفلان اعتقل وفلان سرق وفلان حبس··· ولو أن القائد نفسه مات (لاسمح الله) لكان هذا أكثر أخبارهم سعادة وربما داخوا بهذا الخبر المثير الى حد الثمالة لو كان الأمر بيده لأدخل قلمه الأحمر إلى رؤوسهم وحذف كل هذه الخزعبلات من رؤوسهم النتنة التي تعفنت وأسِنت من أكل الفول والفلافل وباقي أنواع الفطريات السامة، وأنه ليستطيع رؤية الأفكار تتكون فوق رؤوسهم وقراءتها على شكل فقاعات تشبه تلك التي يرسمها رسامو الكاريكتير عندما يريدون التعبير عن أفكار الشخصيات التي يرسمونها·