أنت هنا

قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هندسة أقل.. خرائط أقل

هندسة أقل.. خرائط أقل

في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
الامتلاك بالنظر
 
التلصصية هي اختلاس النظر إلى شيء لا تملكه، وليس من حقك النظر إليه·· أي إنه انتهاك لخصوصية الآخر أو غزو للآخر، بواسطة النظر· إنه إذن فعل يثير الاستنكار والاستهجان·
 
ولأن الفعل شكل من أشكال الإشباع الحسي بواسطة النظر، فإن أحداً لا يستطيع أن يتجنب ارتكابه، أو يتعهد بعدم ممارسته ثانيةً، ذلك لأنه يتصل بطبيعة الكائن البشري الذي يحرّكه دافع الفضول (أن يرى كل شيء) والرغبة في الاكتشاف والامتلاك معاً، ويتصل من جهة أخرى بقوة الإغواء·
 
الشيء المثير، الجميل، الفاتن، هو الذي يجذبك ـ على نحو غير مباشر ـ ويرغمك على التحديق فيه والاستمتاع به بصرياً· إنه يغويك حتى دون أن يقصد ذلك· والرغبة تزداد كلما كان الشيء (لنقل الآخر) غافلاً عن كونه موضوع متعة بصرية· غياب المعرفة بوجود النظرة المحدّقة، المتفحصة، الشهوانية، تجعل الآخر مباحاً ومكشوفاً ومغوياً·· إنه يسهّل مهمة المتلصص الذي يرغب في الغوص عميقاً داخل عالم الآخر، كما لو أن ثمة سراً ينبغي كشفه·
 
في المتلصص تكمن النزعة السادية ـ المازوشية· إنه يمارس ساديته حين يجرّد المرئي من خصوصيته واستقلاليته، حين يحتلّه بالنظر· إنها سادية سلبية، أو بالأحرى، مجازية· لكن المازوشية ليست كذلك، لأنه يمارسها ضد نفسه، أي يختبرها جسدياً ونفسياً· إنه يدرك بأن المتعة زائلة ومعذّبة، وأن الإشباع ليس كافياً· لنتذكر عذابات بطل هنري باربوس في روايته (الجحيم)، هذا القاطن في عزلته والذي لا يستطيع أن يتصل بالآخرين إلا عبر فتحة صغيرة في الجدار تطل على الغرفة المجاورة· إنه يتصل بواسطة النظر فقط، ولأنه يعجز عن المشاركة والتفاعل وامتلاك من يشتهي فإنه يغرز أظافره في الجدار، في إيماءة موجعة، محاولاً اختراق الحاجز·
 
التلصصية تشتمل على انفعالات متناقضة: إثارة، خوف، توتر، لذّة، ترقّب، ارتباك· أحياناً تستحوذ على المتلصص مشاعر مختلطة من الانجذاب والنفور فيما يراقب بلهفة وقلق في آن· إنه يشعر بالخوف من فكرة أن يكشفه الآخر أثناء ممارسته الفعل وفي الوقت ذاته، يشعر بالرغبة في أن يُضبط متلبساً بارتكاب الفعل· الخوف ينبع من يقينه بأنه يرتكب فعلاً خاطئاً، والرغبة تنبع من إحساسه بالذنب وضرورة معاقبته· لكن هذه الرغبة تشي أيضاً عن إحساس بالهيمنة، أن يعلن للآخر بأنه وقع تحت سيطرته لفترةٍ، ولو محدودة، من الزمن· أما في أغلب الأحيان، فإن المتلصص يفضّل أن يكون خفياً لا مرئياً، آمناً في موقعه، يمارس سطوته ويحقق متعته دون أن يعي أحد حضوره·
 
التحديد الأدق للمتلصص هو أن يرى دون أن يكون مرئياً·
 
التلصصية تقتضي وجود الآخر، والآخر دائماً استعراضي· إنه يستعرض نفسه على نحو مغو دون أن يشعر (وأحياناً يشعر) بحضور راصد· المتلصص يحتاج إلى الاستعراضي، بدونه لا يمكن أن يوجد· والعنصران يتوفران في السينما· مشاهدة الفيلم (وكل أشكال العرض تقريباً) هي نوع من التلصصية، حيث ما يحدث على الشاشة يمثل العنصر الاستعراضي، والمتفرج القابع في غرفته المظلمة (الصالة) يمثل المتلصص الذي يحدّق أمامه محاولاً امتلاك ما يراه بالنظر· عملية المشاهدة السينمائية تكشف حقيقة أن داخل كل فرد يكمن المتلصص·

الصفحات