رواية "منامات" للروائية العمانية جوخة الحارثي؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2004؛ نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب منامات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
منامات
الصفحة رقم: 7
حين نجحت مي بتفوق، أفعمنا بآمال الجامعة،ربما كلية الآداب أو التجارة، وقبل انتظار نتائج القبول كنا قد أعددنا حفلة صغيرة ابتهاجا بتفوقها، لبست مي فستانا زاهيا موشىً، ودعت بعض صديقاتها، انخرطن في الكلام والضحك والغناء، فراشات منيرات ترتفع أصوات المزاح من أفواههن المحشوة بالكعك والعصائر،ما انفكت أمي تخدمنا بنفسها، لم تطمئن لتوزيع الخادمة للأطباق والملاعق، شاركت في بعض الأغاني بابتسامة متواطئة، وضحكت للنكات الجديدة حتى ناداها زوجها، وحين رجعت، سكت الجميع، قبَّلت مي على وجنتها بهدوء وقالت إنها مضطرة للخروج الآن·· ·وحين انفضت تلك الفراشات تسابقت ومي على فتح الهدايا، كانت أشياء ظريفة: دمى ودببة قطنية،قوارير عطر وردية، وسائد صغيرة على شكل قلوب حمراء، بطاقات ملصق عليها زهور مجففة،كتب على بعضها : إلى العفريتة مي، أو إلى حبيبة أبلة ليلى : مي كنا نضحك حتى فتحنا هدية أمي : علبة فخمة من الألوان الزيتية، ومشابك شعر كلاسيكية مرصعة بلآلئ صناعية· سكتنا فجأة، وحين حاولنا الابتسام كانت مجرد تعابير متقلصة غزت وجهينا، مي التي كانت تنجح في اختبارات الرسم بصعوبة ولم تمارسه أبدا كهواية قالت: علبة جميلة··، نظرت إلى شعرها القصير جدا الذي يستحيل لمه في أي مشبك شعر وأنا أردد: فعلا·· جميلة··، تلفت حولي، كانت بعض البالونات ما تزال معلقة في فراغ الصالة، أنزلتها وأنا أقول: تأخرت أمي··، أخذت أجمع الأطباق والأكواب لأخذها إلى المطبخ، حين وقفت أمام المغسلة، أخذت أحدق في الماء يسيل على الصحون، بدا لي كل ذلك غريبا جدا، وتذكرت جملة قلتها لأبي ذات حلم : بيتي ليس ذلك البيت، أخذت أراقب النافذة والثلاجة بتركيز، وحين استدرت كانت مي واقفة في منتصف المطبخ، بدا شعرها منكوشا، كانت حافية على البلاط، تضم يديها إلى صدرها كأنها تحاول السيطرة على ارتعاش جسدها·
فستانها جميل، وجهها مشرب بالبراءة، دموعها حبات كبيرة ومتلاحقة كأن صوت تلاحقها هو صوت الماء المندفع من ورائي في المغسلة· قمت بحركات كثيرة لا داعي لها، لعقت شفتي، تنهدت، فرقعت أصابعي، نظرت إلى السقف، إلى الجدران، إلى البلاط البارد، وظلت مي ثابتة بوقفتها تلك، بفستانها ذاك، كأنها خرجت من إحدى الأساطير لتواجه ضعفي· مسحت بكفي عى وجهي، كنت مستعدة لإلقاء خطاب تهدئة على مي لولا أن قالت بصوت مبحوح: بيتنا ليس هذا البيت، انفجرت في بكاء عميق، ومي هي التي ضمتني، ضغطت ياقة فستانها الموشاة على نحري، اختلطت أصوات آلامنا طويلة، وحارة وعميقة كأصوات نواح·
أحسست بالماء يبلل أقدامي، فأفلت مي لأجده قد فاض من المغسلة، وانساب على البلاط، غسلنا وجهينا، أغلقت الصنبور، أطفأت نور المطبخ، وعدنا نتلفت بحذر حتى باب غرفتها·
قالت بضراعة : نامي معي، هززت رأسي، وقضيت وقتا أتأملها وقد التصقت بعض الخصلات على جبينها وهي نائمة·
أيها الحب الذي أشعل أجفاني بملح وقتاد
ما الذي يحرقني حيا ويبقي الروح خيطا من حرير
طائرا من مرمر أخضر لا يطوي جناحا أويطير؟
انتهت ساعات العمل، لملمت أشيائي في حقيبتي وخرجت، في غرفتي أتقلب على السرير ولا أفعل شيئا، مصابيح الإضاءة تتدلى على شكل كرات صغيرة، السقف يقترب ويبتعد بتواطؤ، ترتجف ثنيات الستائر الثقيلة وأسمع من خلفها أصوات ضعيفة للجيران وهسيس سدر وورق حي، وفي ذلك المساء عرفت أني هويت، فظللت أهوي بلا قرار وأتصدع بلا صوت·
وكأنما استنزفت قواي بغتة سقطت يومين مريضة، كل ذرة في تستقبل طبولها الجديدة المدوية، وترتجف وقد عرفت، عرفت أن كل هذا الانهيار له اسم واحد هو العشق·
امتدت هذه الأصابع الآثمة إلى القلم وكتبت عن سجن القلب في زنازين لا فناء لها، وفي الصباح كانت الأصابع أكثر إثما لتضع الورقة على منضدة عمله، قبضتها أصابعه البريئة كدليل إدانة طال انتظاره، وكصيد وقع أخيرا في الشرك المستحيل·
كحبات مطر صغيرة ناعمة تسيل على امتداد نافذة عالية، من خلفها شجر عال مستحم، من فوقها طير، كل ريشة فيه تحكي الأشواق، تشق آفاق الروح وتشف حتى تتلون بلون السماء، تتطاير في كل الكون ، وتتحد في قارورة عسل وطيب، ولها في اتحادها وانفصالها اسم واحد هو الحب·
لصنع قارورتها انصهرت آلاف الورود الرقيقة، تجمعن وذبن معا، ومن دأب آلاف النحل، انصب الشهد، وحين امتزج عسلا وطيبا بسحر معا كان ذلك هو المفتاح والخاتم السري، وكان على زجاجه الشاف بحرا شهد وطيب، ممتزجان، وفي سر سرهما المؤتلف اسم الحب· فليحترق هذا القلب بتلكم النار الهائلة، وليتفتت آلاف الذرات على كل تويج زهر، وحافة عشب، وذرة رمل، ولتأتلف ذراته من جديد، من جديد إذ مرت بها يوما تلك الطاقة السحرية، وإذ عرفت مرة مس الحب، ولتنقسم الروح كالبللور على عتبات الاسم المهيب، ولتنسجم كل الأضواء والألوان خلال صفائها العميق، ولتنشطر في كل خيط نور شمسي ونجمي وكوكبي، ستعود، كلا واحدا، ولن تأفل إذ مسها الشعاع الأعظم، واخترق بللورها الشفاف ونوره الحب·
فليتقطع الجسد على عتبة كماله، وليسيل الدم القاني فداء جماله، وليغدو شلوا شلوا يحكي كيف لم يحتمل تماسكه عظم الحمل، فخر صعقا في كل فج له رؤيا، وفي نور تجليها سيرتسم محياه الباهر، ومنقوش عليه، محفور منذ الأزل اسم الحب·