أنت هنا

قراءة كتاب منامات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
منامات

منامات

رواية "منامات" للروائية العمانية جوخة الحارثي؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2004؛ نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
في أعلى الشجرة التي ارتفاعها سبعون ذراعا وعرضها سبعون ذراعا كنا، يمس ورق الشجر أقدامنا ولا يمس، ونسير، ببساطة، كأننا فرح صغير خرج للفرجة على العالم من عل، وهبط من عروق الشجر إلى جذوره حتى عثر على هذه الشجرة السحرية مزنرة بالرقم السبعين، محروسة بحرف الميم، فسرى إلى أعاليها، مرتشفا الغيم·
 
كنا نسير، لا حاجة بنا حتى لاشتباك اليدين، إذ تفرعنا أغصانا، وفروعا، وزهرا، ولم نعد ندري من ينتمي لمن، ومن يشتبك في من، الزمن؟·· الزمن كان الغروب، شبه نور وشبه ظلام، وفي مرآة روحينا كانت أنت مضببة في شرك حروف أنا، مرفوعة على قرني غزال نازلة في المنزل السادس لكوكب الزهرة·
 
وحين انزاح الغطاء فتحت عيني وجرعت من كوب الماء الذي انساب إلى حلقي، وغسل كل ضباب، وأراني كل ما ينبغي رؤيته : المنبه، والكرسي، واللوحات، والكتب والتذكرة الممزقة لسفر كان سيضمنا·
 
كنا نصعد معا إلى ذرىً من التوهج، نكتشف أنفسنا كيف تفنى، وكل يوم جديد كان يتفجر بالمزيد، لا آلام إلا آلام الحب الخالصة، وشوقه النقي الفريد، وسحره الذي ينفي العالم كله ويبقينا نحن، وفي كل ذلك نحاول مراوغة اللغة وتسكين الكلمات وتنويم الحروف اليقظة حد اللمس، حتى كانت ليلة، عيوني على الهاتف وعيونه علي، أردع أصابعي عنه ويضن برنينه عني، حتى إذا جاد جاء الصوت، ولم يكن من مجال لكلام عادي، جاء فقط ليقول الكلمة المعجزة، وليدخل كل الفناء في الحروف اليقظة المنتظرة، ثم أقفل الخط، وبكيت، وقد أرهقني خدر قدمي، ونمت، من فرط البهجة، في مكاني·
 
قالت أمي : ماذا تستخدمين لوجهك؟·· مسحوق الصندل؟·· لقد أصبح نضرا جدا··، ارتبكت: لا شيء··، لم تعد تناديني بزرافتي، هربت منها، ربما تكون قد عرفت وصفة هذا القناع السحري فيما مضى أما الآن فلا يمكن أن يشف فؤادها ليعرف أي شيء، لا تستطيع رؤية السر في لمعة العيون وتألق الوجه·
 
قال وقد ثبت نظره علي: تزدادين جمالا··، فقلت كما ينبغي حين أسمع مجاملة عابرة: شكرا، وغيرت مجرى الحديث، لكن صدى الحسرة في تساقط كلماته لم يخطئني·
 
اتصل في ذلك المساء متألما : ماذا أفعل؟·· ماذا أفعل؟··، قلت بخوف: ماذا أفعل أنا؟، ثم صمتنا نصغي لوقع أنفاسنا على السماعة المعدنية، قال: ماذا ترتدين؟، قلت: قميص بيتي قطني، ألح: ما لونه؟، أجبت كأنما يجب علي أن أجيب: زهري·· به ورود زرق، تنهد، وصداها لم يخطئني أيضا، وخفت أكثر حين تحشرج قائلا إنه سيأكل السماعة·
 
قالت أمي: ألا تريدين تجريب هذا القناع؟ إنه من طينة البحر الميت، ينقي البشرة تماما، شكرتها بأدب فقالت: بشرتك نقية على أية حال، وعادت لانهماكها في بسطه على وجهها، أحسست بأنها لم تعرضه علي إلا لتبدو كأم مهتمة بجمال فتاتها، كدت أن أخرج لولا أن قالت: أختك مي··، قلت: ما بها؟··، سكتت، غسلت يديها عن الطين، وأخذت تطلي أظافر قدميها بعناية، كانت قدماها جميلتين، وكان أبي يفركهما بين راحتيه ونحن نشاهد التلفزيون مساء، بعدما انتهت التفتت إلي : ألا تعتقدين أنها تبالغ كثيرا في حب معلمتها؟، قلت: لا·· إنها مرحلة عابرة·· لا تقلقي··، استدرت فدقت يدها على منضدة الزينة فارتعشت المساحيق: اجلسي وأنا أكلمك جلست، وكلمتني طويلا عن مي، عن قلقها عليها وعلى دراستها ( لم نكن نعلم آنذاك أن مي ستتفوق ورغم ذلك لن يظلها سقف جامعة السلطان)، عن تفاهة هذه المشاعر، وعن إيثارها العزلة مؤخرا، وعصبيتها·· وكلام كثير هو مجرد حواشي وتكرار لما قالته سابقا، ولم أشارك، وما كان منتظرا مني، وحين استأذنت للخروج كانت العبارة قد ملأت فمي فسارعت بلفظها وقد أغلقت باب غرفتي علي: ماذا تعرفين أنت عن مي أصلا ؟ انكببت على السرير : ماذا تعرفين عن مي؟·· ماذا تعرفين عني؟·· ماذا؟ ·· ماذا؟··
 
أسفل السرير وجدوها ملقاة، فمها مزرق مزبد، عيناها زائغتان، ذهلت أمها وأخذت ترتجف بجانبها في حين هرعت عمتها - التي كانت في زيارة - إلى مراش ماء الورد، وأخذت ترش منه على وجهها حتى انتبهت أنها لم تكن فاقدة للوعي بل شاحبة ومتشنجة، فشرعت تدلك أطرافها وتقرأ عليها المعوذات مرارا ثم قامت إلى بقجتها وأخرجت العود والصندل والعنبر لتدس منه تحت أنفها وهي تردد: وله ما سكن في السماء والأرض·· وله ما سكن في السماء والأرض··
 
عندما كرت الساعات على تلكم الحال أخذت أمها تدور نافدة الصبر في الغرفة : متى تنجلي هذه الغمة؟·· ما بها البنت؟··، فتهدئ العمة من روعها : اهدئي يا أختي·· توكلي على الله·· ستكون بخير وتنجلي الغمة قريبا بإذن الله··، ولكن الله لم يأذن بانجلاء قريب، إذ ما سكنت أطرافها حتى تحرك لسانها قارصا بعنف كل ما حوله، فتقضي النهارات جائلة في البيت، لا تحيد نظرتها النفاذة عن التهكم، ويخترق لسانها ذلك الحاجز الرقيق الذي يحكم علاقات البشر أو ألسنتهم، فتردد باستمرار أن جارتهم ثرثارة، وأختها متصنعة مدللة، وعمتها قبيحة مسكينة، وتطلق ضحكة مدوية حين تبرر أمها غياب زوجها بالانشغال في العمل، أو تراها متبرجة أمام المرآة، تدلق أطباق الطعام ساخرة منها، وشعور من حولها بالحرج والضيق ينمو، أضاعت قناعها فنشرت حيرتها، كل هذا القدر من عدم التكتم يثير الحفيظة، ثم يتحول العزل إلى شعور صادق بالخوف عليها وقد توقفت عن تناول الطعام وبدأت مشيتها بالترنح·
 
همست العمة في أذن الأم : البنت مسكونة·· سآخذها معي إلى البلد وأداويها·· لا تقلقي لن آخذها إلى المشعوذين بل سأداويها بالقرآن وستشفى باسم الشافي إن شاء
 
وهكذا حُمِلَت - مقهقهة - إلى بيت العمة، بعد أن وافقت أمها أملا أو حرجا لا فرق، وفي سعة حنكة العمة وبيتها سكن ساكنوها وباسم الشافي شفيت إذ شاء·

الصفحات