رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب مطر الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مطر الله
الصفحة رقم: 2
كنتُ دائماً لصق قلبك الذي قدّ من جلمود، ولصق صدرك وأذنيك وعينيك، أهتف بك قف أيها العبد لغرائزك، إياك من رغباتك التي ليس لها حدود، ومن شبقك الموصول الممدود، إلاّ أنك تمضي كأنك لا تسمع، ولم يكن باستطاعتي ردعك ولا صدّك عمّا أنت فاعل، فامتلأ دفتري بخطاياك، وها أنا أفرده أمامك في الوقت الذي تنسل الحكايات تباعاً، منه ومن رأسك المعطوب·
سأمسك بالخيط من البداية، وهي بالتأكيد لا ترضيك·· لا تقطّب جبينك ولا تغضب مني إذا قلت لك بأنك كنت فظاً وأنانياً وغير أمين على أهلك وجيرانك·· رغبتك في إزعاج الناس فاقت كل تصور، لذلك لم تجد لك نصيراً يقف اليوم بجانب عجزك وشيخوختك إلاّي، ما الذي يتذكره الآخرون منك؟ لقد كنت تغش في الميزان، إذ تلصق بإحدى كفتيه من الأسفل قطعة مغناطيس، وتزيد خمسة أو عشرة فلوس على كل حاجة تبيعها، ويزداد السعر إذا كان البيع على أجل متأخر، وأشياء أخرى سأذكّرك بها أثناء هذه الفترة المحصورة بين أواخر أيامك وبداية الخوف من رحلة أبدية مجهولة، قد تكون أبواب الجحيم فيها بانتظارك·· خذ مثلاً، معاملتك المهينة لأخيك الذي حوّلته إلى بغل، ومغامراتك النسائية التي لا ترى فيها حدوداً بين الحلال والحرام، وتفاصيل كثيرة سقطت من تقويم ذاكرتك، أو جهدت لتخفيها في الدهاليز المظلمة من روحك، سأريك - ما دمت ترى الأشياء على هذا النحو - عالمك الحقيقي الذي كنت عليه، وأكشف أعماقك السرية التي لا يعرفها أحد، أعماق البشر يا سيد مهران لا بد من إضاءتها من حين لآخر لكي لا تصدأ ولا تزداد عتمة بمرور الوقت·
سأكون أكثر جرأة منك وأذكرك بالرجل الغريب الذي دخل بيتك، ونام على فراشك، كاد الخبر ينتشر كالنار في الهشيم، فاتفقت معه على أن يتظاهر بالجنون مقابل أن لا تسلمه للشرطة، وحين فعل ذلك تخلصاً من السجن والعار، اقتيد إلى مستشفى الأمراض العقلية، ولم يخرج إلاّ بعد سنوات محطماً ومخرّب الذاكرة، لقد جن فعلاً بمعاشرته المجانين وتلقي الصدمات الكهربائية، وكان أن ضاعت الحقيقة، وظلّت سمعة زوجتك مصانة أمام الجميع، لكن الجفوة بينكما في الفراش استمرت شهوراً طويلة جعلتها تذهب إلى الملالي والمشايخ لعلهم يفكّون العقدة التي تلبّستك بالامتناع عن معاشرتها·
وسنأتي على قصة الرجل الثاني الذي جن أيضاً بسببك، لكن المعادلة هذه المرة مقلوبة، فبعد أشهر قليلة على خيانة زوجتك، ولم تكن جروحك قد التأمت بعد، كنت أنت على فراشه، مع زوجته سعدية·· حين فوجىء بالمشهد سقط مغمياً عليه، وحينما صحا لم تصحُ ذاكرته، سنأخذ الحكايات على مهل، نستلها من مخابئها العميقة في ذاكرتك التي بدأت تفرز الصور·· طبعاً ما جئت لأهينك بالعودة إلى فتح الجراح التي بقيت مستعرة داخل روحك، لنكن منذ البدء على وفاق فيما يتعلق بندوب الأرواح وتقرّحاتها لكي نجتاز مراحل الحياة بأقل الخسارات، فأنت إن دفنت سرك في أعماقك، سيكون مثل قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً ما وتدمّرك، بل يمكنني القول بأنك لن تشفى حتى وإن دخلت قبرك، ورميت خطاياك كلها إلى الدنيا·· ستقلقك عظامك، وتسقطك آلامك في هوّة سحيقة ليس لك فيها من شفيع·
كفاك يا سيد مهران فلقد كتمت الكثير من الأسرار، وكان بودّك أن تنساها لولا أنك آثرت الاحتفاظ بها وحدك·· ما بال وجهك ممتقعاً؟ هل يستحق المرور على ماضيك كل هذا الخوف؟ لماذا إذن جئت إلى المكان الذي امتلأ بذنوبك؟ لماذا لا تغادر تلك الحقبة التي أخذت طريقها إلى الزوال؟·· ما دمت قد جئت فلتكن الأمور مكشوفة·
مرة واحدة وأخيرة تجاوز خوفك وواجه ذاكرتك التي ثقلت وأثقلت عليك، لقد نامت أكثر مما يتحمله الصبر، وها هي الآن تخرج خزينها إلى العلن، ولا يمكنك أن تقف بوجه المد·· أدعوك إلى وليمة بوح دونما شك بواقعية ما ترى برغم عدم واقعيته، ودونما وهم بأن ما تراه مجرد حلم أو كابوس·· أطلب منك أن لا تتعمّد انتقاء ما تريد وإخفاء ما تظن أنه يسيء إلى ماضيك، في هذه الحالة لا تطاوعك الذاكرة ولا تراوغك، ولكن قبل ذلك لنتفق على تهشيم هذه الجدران الوهمية بيننا، لقد بقينا سنوات طوالاً نراوغ بعضنا بين طياتها، وعلى وجه الدقة أنت الذي أزحتني من الواجهة ورحت تتهرب مني لأكون بعيداً عن نواياك وأفعالك، كنتُ أنهرك بصوت مسموع فتتجاهلني، بل رحت تخنقني في زوايا روحك المظلمة، في محاولة منك لقتلي، إلاّ أنني لم أمت كما كنت تتصور، كنتُ أتنصت على كل حركة تبدر منك، وإلى كل خلجة من خلجاتك، لأسجل في دفتري الذي أراه ولا تراه، وأدون كذلك أحداث الحي، الصغيرة منها والكبيرة، برغم أنني غير معني بسواك، لكن، لكي أعطي الصورة التي كنت عليها لا بد من المرور بخلفيتها وبالإطار الذي يحيط بها، وها أنا اليوم أواجهك، وأفرد أمامك أوراقي الممهورة بالحبر الداكن المشع، الذي لم يستطع الزمن النيل منه·· إذا شئت سمّها تصفية حسابات قديمة بينك وبين بائع لا ينسى ديونه أبدا·