أنت هنا

قراءة كتاب مطر الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مطر الله

مطر الله

رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
ولأن صابر يؤمن بداخله أن البشر صنفان، سادة وعبيد، وهو دائماً في الخانة الثانية التي وجد نفسه عليها، فقد تحرّك دون إبطاء أو اعتراض على مناداتك له بالبغل، حتى أن البعض نسي اسمه وصار يناديه بهذه التسمية، وعلى العموم ليس ثمة فرق كبير بينه وبين البغل، فالاثنان يتحملان أكثر من طاقتهما دونما احتجاج، أو حتى شعور بالاستياء، إلاّ أن البغل يحرن أحياناً، ويرفس دلالة على الرفض، أما صابر فليس له إلاّ الطاعة والخضوع·· في غضون دقائق جمع لك عدداً من الأولاد، وعدهم كما أخبرته بأن يعطي كل واحد منهم عشرة فلوس بعد الانتهاء من العمل، هرعوا إلى الدوبة التي رست قرب الدرج الحجري الصاعد من الشاطىء إلى المسناية، وصعدوا إلى الدوسة التي مدّها أحد العمال بين سطح الدوبة وحاشية النهر، حملوا قطع الخشب ولفائف الحصران، أما البواري الثقيلة وحزم الغَرَب والزور فلها من يحملها، صابر وثلاثة رجال من عمال الدوبة، يطوون البارية الواحدة ويشدّونها من الوسط فتأخذ شكلاً اسطوانياً، ثم يحملونها على ظهورهم ويمضون بها إلى المكان المخصص بين المسناية ورصيف السدّة المقابل لدكانك، كان ذلك المكان ممهوراً بلعب الأولاد، كرة قدم ودعبل وشطيط، ولكنك صادرت المكان دون اعتراض من أحد·
 
كان الشتاء على الأبواب، وقت مناسب للبيع، تبيع حزمة الحطب بضعف ثمنها، والبارية بزيادة درهم، والناس تشتري بسبب حاجتها، برغم الفقر الذي هم عليه، أما الفقراء جداً من سكنة الأكواخ فيهرعون إلى البساتين المجاورة، يجمعون كرب النخيل والأغصان الجافة، يستخدمونها في الطبخ والتدفئة إذا تأخر موسم السيل·· وموسم السيل هذا يأتي بالخير الوفير للجميع، جذوع نخيل وصناديق خشبية وقصب سُكر وسعف وقطع أخشاب والكثير مما يجرفه منسوب المياه المرتفع من الغابات والبساتين البعيدة حين يفيض نهر دجلة، ويكون موسماً حافلاً، يجمعون مؤونتهم من هذه الخيرات وينشرونها على السطوح، أو أمام بيوتهم، حتى تجف ثم يستخدمونها حطباً في أيام الشتاء التي لا ترحم أجسادهم، عند ذاك تصاب تجارتك بالكساد·· وبرغم أنه لا يحق لك استغلال أرض الحكومة، إلاّ أن أحداً لم يعترض على المساحة الكبيرة التي اقتطعتها وصارت تسمى بساحة الحطب، والبعض يسميها سكلّة مهران·· أما في الصيف، فأخوك البغل يتكفل بإنزال بضاعة الدكان التي تأتي محملة في سيارة من نوع البيك آب، يفرزها ويصفها في المكان المخصص لها، قبل أن يمضي بعربانة اللكستك ويدور بها بين البيوت، أو يقف قرب الشاطىء حيث يتجمّع الأطفال للشراء، ولا يتوانى الكبار من تذوّق اللكستك، فالصيف حار ولا يطفىء الظمأ غير هذا الطعم الحلو البارد، ومن لم يجد النقود للشراء يهرب إلى النهر ويرمي إليه جسده الغارق بالعرق، ليخفف من وطأة الحرارة ولسع البعوض·
 
البيوت تكاد تختنق بهذا الكائن الهش الذي يهاجم الفقراء في الليل والنهار، وسيارة الصحة تتأخر كثيراً في رش المواد المعقمة، لذلك تراهم يشعلون المواقد لأطول فترة كي تنقذ أجسادهم من البعوض، فتمتلىء رئاتهم بالدخان، ويعانون ضيقاً في التنفس، لكن ذلك أرحم من لسعات البعوض·
 
***
 
أعرف أنك متعب يا سيد مهران، وأن الأيام خضخضتك، مثل راكب في عربة تمشي على أرصفة متعرّجة، وأدرك أنك مأزوم، فرجل مثلك في العقد السابع من العمر، منخور العظام والذاكرة، لا بد له أن يكون في الحال الذي هو عليه الآن·
 
هل تشاهد هذه الجموع التي نفضت رماد سنينها البائدات وزحفت إليك من خلال رأسك المزحوم بالصور؟ جلّهم الآن موتى، وسيموت عدد أكبر مما تراه في السنوات اللاحقات، بل سيأتي زمن لا يجد فيه الناس وقتاً لدفن موتاهم أو حتى لإيجاد قبر لهم، سيموتون شر ميتة لو أدركوها منذ زمن بعيد لوضعوا حداً لحياتهم بأيديهم، وسيكون عزرائيل قد تقاعد من هذه المهنة الشاقة إلى الأبد، وانزوى في مكان قصي وبكى بحرقة ومرارة على ما حلّ بالناس، سأحدثك عن هذا الزمن في وقت لاحق·· إنتبه إليّ حين أتحدّث إليك، هل تبحث عن شيء مفقود بين الأحجار؟ لن تجد، إنها فقط طوابير النمل التي تبحث عن مؤونتها، ما لك تتلفت كأن صوتي يأتيك من زوايا متفرقة؟ لا أحد يلاحقك اليوم غير ذنوبك، وأعرف أنك ما أتيت لهذا الاستذكار، بل لأشياء أخرى تقض مضجعك، ولكنني رغبت في المضي معك إلى أبعد من ذلك، فقط لأثبت لك بأنك في الصحو الكامل ولست في الحلم، وأننا معاً يمكن أن نزيح الغلالات الرمادية، ونكشف المطمور تحتها لنريح الأرواح مما أتعبها كل تلك السنين·· لا كابح اليوم على ما نعترف به، فالممنوعات ذهبت مع الذين ذهبوا بفعل انتهاء مدة إقامتهم في الحياة، مضوا إلى عالم مجهول، وأعمار أبنائهم الآن فاقت أعمارهم إبان كانوا في الحياة، ربما لو حدثت معجزة وعاد الأموات، لما عرفوا أبناءهم، ولساورهم الشك فيما يرون، وإذا ما تيقنوا سيدهشون، وسيسخرون، إذ كيف يصبح الأبناء أكبر من آبائهم؟
 
دعناــ الآن مـن هـذا وقـل لي، ماذا تريد من هذه النخلة الشائخة التي ما عادت تعطي رطباً جنياً ولا ينبت الطلع في قمتها؟ هل تبحث فيها عن ذكرى الرجل الذي ما شعرت يوماً بالود نحوه؟ رجل طويل القامة، نحيف، أسمر البشرة، لا يخلو من الوسامة، باسم الوجه برغم أنه يحمل اسم عباس، كان قد اقترب منك في أحد النهارات، بينما كنت تراقب وصول بضاعتك النهرية، وحتى وصولها كنت تستمتع برؤية النساء على الشط، لعل إحداهن سهت عن ثوبها فارتفع وكشف عن كنوزها، وكانت سعدية قد مرّت بك قبل قليل، حاملة طشت الغسيل، ونازلة إلى النهر، تمضغ العلكة وتتعمّد أن تخرج صوتاً من بين أسنانها، وما إن حاذتك حتى راحت تنفخ العلكة، ثم تفجّرها، ناظرة إليك وضاحكة، فتستفيق حواسّــك·

الصفحات