رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب مطر الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مطر الله
الصفحة رقم: 4
الأصوات تحاصرك وعبثاً تحاول إسكاتها، أصوات عصافير الصباح حين يداهمها الضوء فتتململ وتضج بالزقزقة، أصوات فاختات نائحات وهديل حمام ونعيب غربان وصوت صرّار الليل إذ يعلن الحرب على السكون، أصوات باعة يجرّون عرباتهم الخشبية وينادون على بضاعتهم، آخرون يضعون البضاعة في سلال يحملونها فوق رؤوسهم، أو يبسطونها على الأرض، خس وبصل، حلبة وفجل، ملابس مستعملة، لكستك ودوندرمة، مكّاوية وشعر بنات وعسلية، دبس وراشي، رمّان ونومي حلو، أقمشة من كل صنف ولون، بازة، كتّان، موسلين، شيفون، بوبْلين، موهير، همايون، كودري، و·· طفي الضوه والحقني عباءات وجراغد حَبَر يأتي بها البائعون من مناطق أخرى، الكل يصيح، الأصوات تتوالى، صوت بائع الفرّارات ومصلّح الفرفوري، وحدّاد السكاكين، وبائعة القيمر والدهن الحُر، صوت كاشفي الطالع بقراءة الكف أو قراءة الملامح·· أصوات زاعقة وأخرى مثل هسيس تتدفق بلا هوادة وتسخر من أيام زهوك التي انفلتت من زمنها، أصوات تقول لك لقد مرّ الزمان بك مرور الشهب حين تسقط على أمكنة لا نعرفها·
ومع أن الزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء، وأن ما يمضي منه يشبه إلى حد بعيد ميتاً تنقضي مدة إقامته في الحياة، ولكن دعنا نتعامل مع الأمر كما لو أن الزمن يعود حقاً·
***
في ذلك الزمان الذي انقضى حاملاً أحزانه ومسراته، كان السيد مهران واحداً من (أعيان) الحي القريب من الجسر الحديدي من جهة الرصافة، هو لا يملك ما يملكه الأعيان عادة، لكن الجميع ينظر إليه كواحد من الأثرياء لمجرد أنه يملك أكثر مما يملكون، له بيت واسع يواجه نهر دجلة، وباحة الحوش من الآجر، يحتوي على خمس غرف، تشغل عائلته غرفتين، والثالثة صغيرة تجاور الدرج في نهاية البيت يشغلها صابر، الأخ غير الشقيق لمهران، أما الغرفتان الباقيتان فيؤجرهما لعوائل صغيرة العدد، الأولى تسكنها رازقية الحفافة، وهي أرملة خمسينية، داكنة البشرة، مترهلة الجسم، ذات وجه موشوم الحاجبين، مات زوجها بالسل دون أن تنجب منه، وهي متخصصة بتزيين النساء وتحضير العرائس ابتداءاً من خياطة البدلة والبرقع حتى تنظيف الجسم والوجه، عدّتها ديرم وسبداج قلاي وكحل مصنوع من شحم البقر المحروق ومطحون الحنطة، لكنها بعد سنوات عانت من كساد مهنتها، إذ انتشرت صالونات الحلاقة في بعض مناطق بغداد، في الأعظمية وحافظ القاضي والباب الشرقي، وصارت بدلات العرائس تُشترى أو تؤجّر مع أكاليل مصنوعة من قماش الأورغنزا والتول ومزينة بالخرز أو بالورود المطرزة بخيوط البريسم، وبعد أن توقف مورد رزقها عملت في بيع الملابس المستعملة، تشتريها من مرهون الذي يشتريها بدوره من تاجر بالات في سوق الهرج، تحمل صرّتها كل يوم وتدور على البيوت القريبة، أو تذهب لتصريف بضاعتها في العلوازية، وأحياناً تذهب إلى الحي الأكثر فقراً حيث يعيش الناس في ضنك مستديم، إلى الميزرة خلف السدّة القديمة التي يسكن معظم ناسها في أكواخ تنز عليهم أيام الشتاء الباردة·
أما الغرفة الثانية فيشغلها حامد الذي يشتغل في معمل للطابوق على أطراف بغداد، مع زوجته سعدية، الشابة الفاتنة، ذات البشرة البيضاء الشفافة·
واجهة البيت عريضة، يتقدمها من الجهة اليمنى دكان مليء بالبضاعة، رز وسكر وشاي ودهن وحمّص وعدس وفاصوليا يابسة، وعلى الرفوف الخشبية تصطف عُلب مساحيق الغسيل والصابون والكبريت، وسجائر غازي ولوكس، وشموع ولالات وفوانيس وأكياس حنّاء، وعلى الدكة الأمامية زجاجات شفافة تحتوي على الملبّس والعلكة والزبيب وحب البطيخ وجكليت التوفي والسمّاق وحبة الخضرة وأصابع السمسمية والشكرلمه، فيما تستقر في إحدى الزوايا صناديق المشروبات الغازية، بيبسي وكوكا وكوثر وسينالكو وسيفون، وبين رف ورف تلتصق قطعة كرتون مكتوب فيها بخط رديء آية من آيات القرآن·· (إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا) وهو لم يطعم أحداً بالمجان، و(لئن شكرتم لأزيدنكم) ولم يسمعه أحد يقول كلمة شكر، لا للّه ولا للبشر، و(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فأية صالحات عملتها يا سيد مهران؟ وفي صدر الدكان ترتفع قطعتا كرتون بالمعوذتين، لأنك تخشى عيون الحسّاد وما يوسوس في الصدور من شرور يحملها أحدهم إليك·
وكانت للسيد مهران تجارة رائجة في موسم الشتاء، تزداد سعة كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، تلك هي تجارة البواري وقطع الخشب وحزم الغَرَب والزور·
هل تذكر يا سيد مهران ذلك الصباح المتوهّج بالضوء، حينما رست أول دوبة تحمل بضاعتك الجديدة؟ كادت أنفاسك تنقطع من شدّة الانفعال، صرخت بأعلى صوتك على أخيك صابر، ورفعت بوجهه يدك اليمنى المليئة بالخواتم الفضية:
- أيها البغل، ما بك واقف دون حراك؟

