رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب مطر الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مطر الله
الصفحة رقم: 9
- وماذا في ذلك؟ ثم أنها شابة جميلة، وليس لديها أولاد أو أقارب، يعني مقطوعة من شجرة·
- آه·· آه على شباب هذه الأيام، لا يسألون عن العائلة والعشيرة، لقد انقلبت الدنيا فعلاً·
- الأحوال تغيرت يا عم·· أنت تتحدّث عن أيام الملكية، ونحن الآن في العهد الجمهوري·· مفاهيمك بالية·
يتراجعون، تتراجع صورهم، تختفي في دهاليز الذاكرة المنخورة، يتكوّم السيد مهران قرب النخلة، هي ذاتها النخلة التي كانت منتصبة عند المدخل الخلفي لبيته، والتي صارت من حصة بيت جاره عباس، أحاط قاعدتها بسنادين ورد الجوري والقرنفل وحلق السبع·· إلا أنها اليوم عجفاء، رطبها صار حشفاً يابساً مثل امرأة عجوز بانتظار من يطرق على بابها ويؤنس وحدتها، لا ورد ولا سنادين·
يحاول الوقوف ثانية، يستند إلى الجذع المحرشف، حبات عرق تسيل من جبينه وتأخذ طريقها إلى صدغيه ثم تنحدر إلى رقبته المجعدة، وهو ما يزال يطارد أشباحه، ضائعاً بين الشك واليقين، يمسح بعينيه الأرض التي كانت تعج بالحياة وبالصخب فتعود الأشكال وتتحرك، يتحركون من أمامه ومن خلفه، تحيط به أصواتهم، يرى الجموع تهرع إلى النهر، حاملين جريد النخل والعصي، إنه موسم السيل، مدُّ الماء يعلو ويمضي سريعاً كأنه مطارد، ودون كلل يحمل عطاياه التي جاء بها من الغابات والأحراش النائية·· إنهم يتسابقون لجمع مؤونتهم·· يراهم بعينين مغتاظتين، يقف على المسناية، يلعنهم في داخله ويلعن المد، يرى الجثث الطافية التي لا يُعرف أهلها، يقذفها الموج قريباً من الشاطىء، جثة امرأة، جثة طفل، جثة رجل، أو جثث أخرى لحيوانات نفقت، ربما بسبب الفيضانات التي لم يتحسّب لها أحد في القرى القصية، أو بسبب انجراف التربة، تأتي مثلما تأتي الجذوع والأغصان والنفايات مع مجرى المياه العكرة·· يقطّب السيد مهران ويلتم غضبه بين عينيه، ليس بسبب تلك الميتات والملامح المنتفخة والمشوّهة لأصحابها، بل لكساد تجارته في مواسم السيل·
***
لا عليك أيها الرجل، ذاك زمان ولّى، وها أنت اليوم تقف على أنقاضه، كل ما عليك فعله هو أن تتخلّص من أسرارك التي أثقلت على روحك، إنها ديونك المؤجلة منذ زمن بعيد، وعليك أن تسدد فواتيرها الآن·· تجاهلتني طويلاً وآن لك أن تصغي إليّ، لا فائدة من استمرارك بالتغاضي ومحاولة دفن الحكايات، الاحتفاظ بالأسرار يا سيد مهران يشوّه الروح ويجعل قروحها منفتحة دائماً·· أعرف أنك صلب ومكابر، ومراوغ أيضاً، حتى وأنت تدرك قصر المسافة بينك وبين القبر، ولكن، لم يبق من العمر ما يكفي أو يستحق المراوغة، قلبك اليوم خامد، لا شيء فيه، إنه ليس أكثر من عضلة تسرّب الدم الفاسد، حتى أنك حين جئت ثانية من الغيبوبة، لم تتعرّف إلى الرجل الذي كنته ذات يوم، خالجك شعور الذي يعود من الحروب الخاسرة بقلب وعقل معطوبين، وينظر في المرآة فيدهشه ما يرى، دعنا الآن من هذا، وتعال نواصل التجوّال في هذا المكان المقفر إلا من صدى الحكايات، وأعدك بأنني سأجاري خيالاتك وأوهامك كما لو أنها حقائق·
أنظر إلى تلك الزاوية، هناك يقرفص صابر الذي تصر على تسميته بالبغل، منذ زمن أبعد من هذا بكثير، حين تركته أمك أمانة بين يديك، وهو ابن السادسة أو السابعة من العمر، وكنت وقتها ابن الثانية عشرة ولا تحمل لصابر أيّ ود، لماذا تجهمت؟ أنا لا أمعن في ايذائك إذ لا سلطة لي عليك سوى سلطة الكلام، وقد استغرق الأمر زمناً طويلاً كي أفهم نواياك، كنتُ حديث عهد بمناوراتك، تماماً مثل طفل يستكشف العالم بعد أن خرج من رحم أظلم وراح يستجمع من خلال عينيه وحواسه ما يحيط به، كي يشكل زاد معرفته، وها قد فاض ما امتلأ، وجئت لأذكرك، برغم أن الذكرى المتأخرة لا تنفع، وأحكي لك عن صابر ما تعرفه وما لا تعرف، وإذا شئت دعني أقترح عليك أن نصمت نحن الأثنين ونتسلل إلى غرفة صابر التي أخرجتها ذاكرتك رغماً عنك، لنتسقط الكلام، فهو كما تعلم في ذلك الزمان كان يكلم نفسه طيلة الوقت·
***
أتقلّب على الفراش بعظام مضعضعة، أنا الرجل المنكود، أنام على مخدة محشوّة بالخرق القديمة البالية، لا أدري لماذا لا يهمد جسمي برغم التعب المضني، ساعات العمل اليومي طويلة، وطويل كالعادة صبري، أصابعي تؤلمني، أطرافها خشنة، اللّيط جرّحها، ومهران لا تهمه جروحي، بل يعتبرها أمراً مفروغاً منه وغير ذي أهمية، فأنا البغل على كل حال، بل ربما أقل من ذلك بكثير، أنا دودة الأرض التي ان نجت من السحق تحت الأقدام ستمضي إلى الجحور·
ما هذا الذي ينهش جسمسي؟ أوه، إنها البراغيث، تسرح وتمرح وتمتص دمي لتعيش، تعيش على دم رجل مسكين، أظنها لا تفكر أبداً بدم مهران السمين ودم زوجته المتوردة، فراشهما نظيف، ناعم، وينامان على سرير من البرنج، تعلوه كلّة من قماش الململ الشفاف لتقيهما لسعات البعوض، وسرير ابنهما منصور من خشب الصاج، أرضية الغرف مفروشة بسجاد اشتراه مهران من الوافدين لزيارة العتبات المقدسة، مستغلاً حاجتهم للنقود·· أما أنا فقد عجزت عن طلب سرير من جريد النخل ينقذ جسمي من رطوبة الغرفة المفروشة بحصير عتيق·· أنت بغل يا صابر، والبغل لا ينام على الأسرّة، كما أنه ليس بحاجة إلى سجاد، وأنا أنكسر وأضعف كل يوم، وأكظم غيظي تحت هذا الجلد الذي صار مأوى للبراغيث، بينا مهران يسخر مني، ومن المرآة المكسورة التي ألصقتها على الحائط:
- مرآة يا بغل، ماذا ترى فيها، وجهك الأسود المصخم؟ أم تظن أن امرأة ستعجب بك يوماً·· ها ها ها·

