أنت هنا

قراءة كتاب مطر الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مطر الله

مطر الله

رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10
وتمضي ساخراً دون أن ينتفض عرق فيك·· تهشم في روحي بقايا أحلام صغيرة، وربما تافهة، فأهشم مرآتي··· آخ، إنها تلسعني، تلك البراغيث الملعونة التي لا تشبع أبداً·
 
هل سمعت يا سيد مهران؟ صحيح انه الصدى لذلك الذي لم تشبع البراغيث من جسمه، ولكنه صدى مؤلم، كتبه في أوراقه، وسنقرأ الكثير من تلك العذابات، صدى يجيؤك وأنت في أرذل العمر، تحاول عبثاً إسكاته وطمره بعيداً عن هذه الروح المفجوعة بتصدعاتها، دعنا نسمعه ثانية:
 
- ينهمر ضوء الصباح على النهر وأنا أجلس بين الصخور، بدشداشة كالحة ممزّعة، أوجار الفئران الكبيرة مفتوحة، ينط أبو عرس، أو تفوت سحلية قرب قدمي فأهب واقفاً وأغيّر المكان·· تنق ضفدعة وتقفز إلى الماء، فأقفز إلى صخرة أخرى·· أحياناً يطول الوقت حتى تلوح الدوبة، فأتشاغل بالنظر إلى الضفة الأخرى من النهر، حيث تصطف الجراديغ التي لا أعرف عنها أكثر من أنها استراحات صيفية للعسكر، أو لأصحاب الذوات، تنطلق منها عند المساء وحتى أوقات متأخرة من الليل أصوات نساء غجريات يغنين السويحلي والنايل والهجع، وتشتعل أمام الجراديغ كوانين السمك المسگوف·· يطول الوقت فأصعد إلى المسناية، عيناي تتابعان نقطة سوداء في أقصى امتداد النهر، تقترب رويداً، وما إن تأخذ شكل دوبة حتى أهرع وأصيح بأعلى صوتي على الأولاد المتجمهرين على حواشي الجروف، أو فوق السدة·· هيا يا أولاد، الدوبة قادمة، كل واحد منكم سيأخذ عشرة فلوس·· فيتسابقون إلى النهر، وحينما يزيد العدد يصرخ مهران: لا أريد أكثر من خمسة، انكم تكلفونني الكثير·· ينظرون إليه بتوسل، متابعين اشارة ابهامه التي ستختار الأقوى منهم، أما أنا فأقوم بأكثر مما يقوم به الأولاد الخمسة، وبلا مقابل: أنت تأكل وتشرب وتنام أيها البغل، ترسو الدوبة بحمولتها الكبيرة ويبدأ العمل، أطوي البارية وأحملها على ظهري، أصعد بها إلى المساحة المخصصة، بينما يحمل اثنان من الأولاد بارية واحدة، أشيل أربع حزم من الغرب والزور وأرصّها على بعضها، في حين يحمل كل واحد منهم حزمة أو حزمتين: اسرع يا بغل، نحن نقترب من صلاة الظهر·
 
من أين جاءتك غلظة القلب على أخيك؟ أليست البطن التي حملتك حملته؟
 
ذات هزيع هطل المطر عنيفاً متواصلاً، مصحوباً برياح شديدة هزت أغصان الشجر وسعف النخيل وعبثت بالأبواب، محدثة صريراً واندفاعات متتالية، اندفعت المياه من الكوى والثغرات، مهددة بيوت الصفيح والتنك، ثم لما اشتد المطر، انثلمت أجزاء من السدة، من الجهة التي تصطف عندها البيوت فزعت النفوس وفزّت الأجساد، بحثت في الليل الدامس عن أعواد الثقاب، وأشعلت اللالات والفوانيس واللوكسات، حملت الأطفال إلى أسرّة الآباء وراحت تدرأ سيلان الماء عن الغرف بوضع خرق وأحجار على العتبات، واستخدمت الطاسات والقدور في رمي الماء من الغرف إلى الحوش الذي غرق هو الآخر، وكم من كوخ سقط على رؤوس اصحابه حين فاجأهم المطر من ثقوب السقوف فاستنجدوا بجيرانهم، وهب هؤلاء لنجدتهم·
 
ولم ينجُ بيتك يا سيد مهران برغم متانة بنائه، فقد دخل الماء من السطح عبر الدرج، في حين كنت قد تحسبت لمدخل البيت بإقامة دكة تعلو السدة قليلاً، وتنحدر من نهايتها اليسرى إلى الدربونة، حيث يتسرب الماء إذا ما دار في خاطر النهر أن يثور، لكن الهيجان هذه المرة جاء من المطر الذي تواطأ مع الرعد بإخافة الأطفال، الذين ظنوا أن (عبد الشط) هو الذي ضرب بعصاه النهر ورفع مياهه إلى السماء، ثم أسقطها على الحي كلّه·
 
أيقظتك أصوات الرعد والرياح، قمت تتفقد البيت، فإذا بالماء قد وصل الباحة، رحت تستند إلى الحائط حتى وصلت غرفة صابر وصرخت: أيها البغل إنهض، أنت غارق في الماء·
 
ورحت تلكزه برأس عصاك كما لو أنه بهيمة، ثم تركله بقدمك الثقيلة على عجيزته، فيفز مرعوباً ويصرخ دون وعي: ها، ها، عفريت، عفريت·
 
يزداد غضبك وغلّك فتضربه بالعصا على وجهه: أنا عفريت يا ابن الكلب؟ قم وانزح المياه مثل البقية·
 
البقية هم، رازقية الحفافة، وحامد وزوجته سعدية، عدت إلى الحوش تسترق النظر إلى سعدية التي رفعت طرف ثوبها، وراحت تغرف الماء وهي تتلوى·
 
كم أسعدتك هذه السعدية، هل تذكر؟ فاجأتها يوماً، بعد أسبوع من استئجارها الغرفة، كانت في زاوية من الحوش، تدعك الثياب وتفتح ساقيها حول الطشت، ولم تكن قد وضعت الشيلة على رأسها، حين رفعت نظرها واكتشفت وجودك، وكنت تحدق بها بعينين محمرتين، لطمت صدرها المكشوف نصفه، وسحبت ساقيها، ثم ركضت إلى غرفتها وأغلقت الباب·· كم عذبتك في لياليك، وكم أعطتك وعداً وأخلفته في أحلامك·· تقول في سرّك إنها درة، ولكن للأسف تزوجت من لا يعرف قيمتها، ثم تقرر: سأنالها، إن لم يكن اليوم فغداً، لأنك شممت رائحة انثى توحي بعكس ما تتصرّف·

الصفحات