أنت هنا

قراءة كتاب مطر الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مطر الله

مطر الله

رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
كان قد وقف بقامته المحنية وروحه المنخورة، مستنداً إلى جذع نخلة لم تعد تعطي رطباً جنياً كما في تلك السنوات الغابرات، يطيل النظر إليها ويلمس حراشفها بمودّة فائقة، كما لو أنه يرجوها أن تعيد إليه ما اختزنته من ذكريات شبابه وبنيته القوية وفحولته التي لم يبق منها شيء، يتوهم في الصمت صوتاً له وشوشات بين الريح وتحت جذور الأشجار وسريان الماء ووهج الشمس وفجوات الصخور وذرات الرمال واصطدام الأمواج على الجروف، وفي حالات التوق وحرقة الفقد، والأحزان التي هو عليها الآن·· يسمع كل تلك الأصوات، ويرى برغم غيوم عينيه أولئك الذين عرفهم بذات الأعمار التي كانوا عليها قبل سنوات طويلة، خرجت له ذكرياته من زوايا لا قبل له بها، وانبجست من قاع رأسه ومن بين يديه، ومن الأرض المنخفضة، وتراب السدّة، ومن الجروف حيث الطحالب تعرّش، ومن الثغور التي كانت تنسل منها العقارب والأفاعي، هطلت عليه مرة واحدة دون أن يدري أين كانت تختبىء وماذا كانت تفعل في غيابها حين احتجبت عنه وأسقطته في النسيان·
 
نظر إلى تلك الأرض بعينين كليلتين وجسم معطوب وقلب نهشه صدأ الأيام، لم يندهش وهو يرى الحجارة وبراز الكلاب وأكياس النفايات التي تعلّقت بالنباتات الشوكية، ولا خلو الشاطىء من ضجيجه وقواربه ونسائه، ما أدهشه حقاً أن هذه الأرض الصغيرة التي تنفرش الآن أمامه، كانت تضم مئات البيوت والأكواخ المتراصّة· رسم بمخيلته التعبانة كل (ثراء) الماضي، انتصبت البيوت الطينية الواطئة، وأكواخ الصفيح الحائلة، وتلك المسقفة بسعف النخيل المجرود والبواري·· استدرجته العتبات، وصدى الأصوات المنبعثة من زوايا المكان، ورأى الدرابين الترابية، الملتوية والمستقيمة، ذات المنافذ، وتلك التي لا منافذ لها، أو تلك التي تتناسل عن أزقة قصيرة، ثم خرج الرجال، تماماً مثلما كانوا، بثياب رثة أو ثياب نظيفة، وضج رأسه بأصوات الصبية وهم يمورون في تلك الدرابين، ويهرع الكثير منهم إلى شاطىء النهر، يغطسون في مائه الثري ليطفئوا حرارة أجسادهم الملتهبة في أيام القيظ·· رأى مشهد الأمواج وهي تتكسر على صخور الشاطىء، فتحدث وشيشاً يشبه موسيقى متناغمة، وفي أماكن أخرى تضمحل على الرمال وتعود خائبة إلى النهر، يبتلعها همسها الناعم، بينما النساء الشغوفات بالثرثرة يجلسن أمام طشوتهن يعملن أيديهن لدعك الثياب أو جلي الصحون بحبات الرمال أو فرك كعوب أقدامهن بحجارة ذات ملمس ناعم، وأخريات يحملن تنكات الماء إلى البيوت الخالية من الحنفيات، ويتناثر ماء النهر على الوجوه حين يخبط الأطفال سطحه اللامع، ويمر من وقت لآخر زورق بخاري فيتلاعب بأجسادهم الصغيرة، وتندفع الأمواج متتابعة لتضرب الشاطىء فتبتعد النسوة حتى يهدأ الموج·
 
نزّت عن روحه الملتاعة آهة طويلة، تبعتها آهات، ثم حشرجات وعبرات، كاد يختنق لولا أنني أوقفته، تلفّت حوله باحثاً عن مصدر الصوت، وحين لم يرني استسلم لصوتي:
 
- في ضبابية ما تراه يا سيد مهران، أو في سطوع الحضور أحياناً، ثمة زوايا غير مرئية بالنسبة لك، أو تحاول جاهداً أن لا ترى ما لا تريد رؤيته، لكنك اليوم ستخضع لمشرط المساءلة، ذاك الذي يضيء العتمة ويحز الرأس ويجلي المخبوء ويخرج ما دُفن وتعتّق، غير عابىء بوهن جسدك وألمك وإحباطاتك، لقد أدبرت أيامك، وها قد خرج الجميع كما لو أنهم نباتات برية انبثقت من باطن الأرض، ضجّوا بأصوات حادة راحت تطرق بقوة على أذنيك، تلك الأصوات برغم وضوحها ما هي إلاّ أصداء لما جرى في الماضي البعيد·· وثمة حشود من الوجوه تتقاطر وتفيض مثل سيل جارف·· خرجوا من أبواب مصنوعة من خيوط هلامية، روائحهم تنتشر في المكان، تختلط بتراب الدروب المتوهجة برغم غبارها، روائح من كل صنف ولون، رائحة تراب الأرض بعد رشها بالماء وقت العصاري الصيفية، رائحة خبز التنور إذ يخرج حاراً وطازجاً، رائحة بخور وحرمل لطرد الشرور وفك السحر عن العذراوات والعشاق، رائحة بطْنج مرشوش على طبق باقلاّء، رائحة سمك مشوي ممزوجة برطوبة الشط، رائحة طين حرّي أغرقته أمطار الشتاء أو عافه المد على الجروف فصارت زلقة، رائحة روث بقر وبعرور خرفان ما تزال تثغو في الجنبات، رائحة حيطان متآكلة، وهيل مطحون مع القهوة المرّة، روائح غسيل ملابس منشورة على حبال غليظة فوق سطوح مفتوحة على بعضها، روائح شهوات لصبيان وبنات ونساء هجرهن الأزواج، روائح حندقوق وسِعد وخبيّز مفروش على الضفاف الرجراجة، روائح دخان معتّق من أيام سجائر اللّف، روائح جدائل مخضبة بالحناء والمحلب، روائح لأطعمة ذات مذاقات مختلفة تتسلل من الروازين أو الأبواب·· روائح·· روائح·· روائح·
 
لماذا جئت يا سيد مهران إلى هذا المكان؟ لماذا تنبش ماضياً لا علاقة له بحاضرك؟ سأجيب نيابة عنك إن أعيتك الإجابة·· لأن حاضرك جدب وخال من أية بهجة، لأن كل شعرة في جسمك المهدود مشدودة بتلك الشهوات والروائح التي لم يبق منها سوى دمامل متيبّسة·· لست وحدك من تفعل ذلك، إن الذين يتوقون للماضي مثلك كثر، وهم مثلك تماماً مقطوعون عن لحظتهم الآنية، يحسون الخواء في كل شهقة أو زفرة، ويستشعرون الخوف من ثقل آثامهم، متوهمين أن إدمانهم على الذكريات سينقذهم من تلك الآثام إذا ما تبع استذكارها الكثير من الاستغفار والندم·

الصفحات