أنت هنا

قراءة كتاب البيضة السوداء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البيضة السوداء

البيضة السوداء

من الرواية:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
إنهـا ذكـريات احتجـاج مليء بأصـوات حناجرنا المكتنـزة بالغضب المكـتوم بدواخلـنا، ولكن الغريب في الأمـر أنهـا المـرة الأولى فـي ذلك الوقـت التـي لم أستطع سمـاع صراخي، كأنهـا احتفالات الصـخب الصامت، مـع فتيـان في مثـل أعمـارنا، نكـاد نحـلّق من أجـل مـشاركتنا بالأحداث اللاحقـة.
 
كـانت تلـك المظـاهرة الأولى التي أشارك بهـا أنـا ورفـاقي، والتـي غيرت مجـرى حياتي.. الحـدث كان أكبـر من أجسادنا المتنامية، كـانت في نهاية مـراحل طفولتنا وبداية المـراهقة، في ذلـك اليـوم شعـرنا أننـا قفـزنا دفعـة واحـدة وغيـرنا نوعيـة وطـريقة ألعـابنا الصبيـانية، بـدأنا لعبةً طفولية جـديدة وخطرة فـي ذلك الحيـن، لم أدرك مـدى الخطر المحـدق بي وبنـا !
 
حتى بدأ شحـن الجو المحيط بنا بأصوات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع والمتطايـرة من حولنا وباتجاهنا، أصـابتني الرجفة الأولى وأنا أرى الـدم الأحمر القـاني يـراق، كـدت أن أسلـم ساقي للـريح، ولـكن شـيئاً مـا أوقفنـي.
 
بـدأت ضربات قلبي بالضجيج، شعرت بها بقوه.. نبضهـا فـي صدري وصـدغي يتسارع، وذلك حين تعالت حركة وصـوت الشاحنات المصفحـة القـادمة باتجاهنا، وهـنت قليلا وارتخت مفاصلي كـل شـيء كـان مفاجئـا، بـدأت أبحـث عـن مغيـث مجهـول فـي تلـك اللحظـة، يـا إلهي كـم شعـرت أنـني وحـيد.. وممـزق..!
 
ولـكن ما حـدث بعـد ذلـك، وفـي تلـك اللحظة أوقفنـي.. شـدّني مـن جـديد ضمني إلـى صدره، ونـزع الخوف مني، خلـعه عنـي.. كـان اندفاع المتظاهرين إلـى الأمـام هـو مـا فعـل ذلـك، حين بـدأوا يعبرونني متسـارعين باتجـاه المصفحـات، أعطـاني ذلـك زخماً آخر مـادة أخرى غير موجودة لـدي، صـلبة هذه المرة كالحجارة التي قذفناها باتجاههم، لقد كنت ضمن غيوم الناس التـي تمطر الحجارة بـاتجاه قوسي و إلـى الأمام، لأول مـرة في حيـاتي أرى كمية من الحجارة المتطايرة مـن محيطي إلى الأمام، فخـلال ثوان معدودة كـان الشارع الضيـق قبالتنا قـد أضحى مرجما من مـراجم إبليس، ولا زلـت أذكر كيف أنه خلال تلك الثواني من لحظـة انطلاق أول حجر باتجاه جيـش الاحـتلال، بـدأت تتكـون كثبان صغيره مـن الحجارة المتساقطة، وحـال ذلك دون امكانية تقدم (عزيزة)(*) وتراجعها إلـى الخلف، رافقـها تقدمنا باتجاهها إلـى الأمـام كـأسراب الطيور المقاتلة.
 
كنـت في تلـك اللحظه فـي موقع الهجـوم، لـن أقول بسبـب شجاعتي إنّمـا كـانت نوعا من الفضول، وهو دائماً ما كـان يدفعني إلى الصفـوف الأمـامية لاكتشاف الحيـاة، والآن للمظاهره والأحـداث.
 
انجـرفنا خـلف التـراجع المـذهل للشـاحنة، وحـين وصلنـا إلـى الكثبـان الصخـرية بـدأنا نـلتقطها مـن جديـد ونقـذفهـا بـاتجاه الجنـود.
 
زادت ضـربات قـلبي شـدة هـذه المـرة ليس خـوفاً، إنّمـا غـضباً.. عـارماً متـرافقاً مـع الجموع المتقدمة، لقد احتللنا موقعاً تراجع عنه الجنود دوار الساعة أضحى محرراً.. (ونابلس الجبار.. نبعتها نبع بيـارا.. والإمدادت متصلـة من حارة إلـى حارة..) كلمات رددها أحد المتظاهرين، وكـان محمولاً عـلى الأكتاف ليصـل صوته واضحـا جليـاً إلينـا، وكان مـن الوضـوح بحيث لـن ولن أنسـى هذه الكلمات ما حـييت بالرغم من أنهـا كانت هي المرة الأولى والأخيـرة التي أسمع بها هـذه النشيد، ولا زلت أبتسـم حين أرى منشـد الشعارات بعـد ذلـك، كـان اسمه نصوحاً، كـأن كلماته قـد نقشت علـى صخـر ذاكـرتي... إلـى الأبـد.
 
حـدث لـن أنسـاه أيضـاً، كـان المنظر لطفل في مثـل عمرنا أو أصغر قليلا، اخترقت الرصاصة صدره، إذ كان واضحاً أنّه لم يكن ضمن المظاهره إنما حـب الاستطلاع مـن وضعه في مكان الطلقة التي اخترقت صدره، فقد كان يحـمل بين يديه (صفيحة للبيض)، وقد اختلط دمه الأحمر القاني بقشور البيض المتكسرة علـى قارعة الطريق، اختلط اللون الأحمـر مع الأبيض والأصفر الهلامي والأسود.. وكذلك عيون بائـع الفستق الحلبي "أبو فيصل" الواسعة والتي تكاد تخـرج من محاجرها بعد اصـابته برصاصة أيضـاً اخـترقت ظهـره، ويـديه المضـرجتين بالدمـاء. كـان ينظـر في كـل الاتجهـات، وفي عينيه بـريق غـريب به نـوع من الاستجـداء الصـامت، ولا زلـت حتى هذه اللحظـة حين أعبر الشارع فـي تلك المنطقة أرى الألوان حية كـما كانت في لحظة الحادث، فقد كان انتصارنا الأول بالرغم من ذلك المنظـر الرهيب..انتصار لعبتنا الصغيرة، والتي سـوف تكون الذكرى الأولى الحيـة في عقولنا نحـن الصبيـة، ومنـذ ذلـك الوقت الـعتيق، وبالنسبـة لـنا و إلـى الأبـد.. بـدأت رجـولتنا، والتي قد قفزناها مـرة واحـدة في يـوم واحد.. وكـانت أكبـر مـن ذلـك بكثيـر... لـقد شـاركنا بالأحـداث بنفـس الهمة التي كنـا نراها من حولنا لأشخاص أكبـر منا عمـراً.. واضحة معـالم الرجولة.. والشبـاب بهم.
 
لقـد أذهـلتنا مشـاركتنا لهـم في تلك المظاهـرة.. رجـالا لا تفرقنا عنهم سـوى ضآلة أجـسادنا، كانت جـراحنا في ذلك اليـوم واحدة.. ومشتركة، لقد أصيـب منا كمـا أصيب منهم.. شراكة العمل الـوطني لا يفـرقها عمـر أو حجم.. ولكـن عاطفتنا كـان بها نوع من الخصوصية نحـن الصغار.. عاطفة مـن نوع آخـر.. بدأنا شـيئاً لم نعهـده مـن قبـل، سوف يـنعكس على كـل مراحل حيـاتنا المستقبـلية.

الصفحات